* عبدالسادة البصري / العراق
أوائل سبعينات القرن الماضي ، كنت طالباً في المتوسطة ، ارتأيتُ أن أراجعَ دروسي اليومية في مكانٍ بين النخيل على ضفة شطِّ العرب، وآخر قرب النهر المحاذي لبيتنا أيضاً . في هذين المكانين قرأت إضافة للمناهج الدراسية قصص ورواياتٍ عربيةً وعالمية ، وكذلك الشعر الجاهلي وما تلاه من عصور وصولا إلى السياب ومعاصريه ، وبعض الشعر العالمي . كنت أقرأ ما يقع تحت يدي من كتبٍ ومجلات ، أشتري البعض منها من المكتبات الموجودة في مركز قضاء الفاو ، وأستعير الآخر من مكتبة المدرسة أو بعض زملائي الذين أصابهم فايروس القراءة . جعلت من هذين المكانين محجّةً ثابتةً حيث صارا أثراً للناظر فعرفهما كل أبناء قريتنا وسمّوهما باسمي . كانت الكتب تصلنا عبر المكتبات الأهلية التي قاربت الثماني مكتبات ، إضافة إلى المكتبة العامة حيث أتردد عليها من وقتٍ لآخر أقضي الساعات فيها غارقاً بين المصادر والمراجع باحثاً عن الفائدة العلمية والمعرفية ، كنّا وقتها ورغم صغر أعمارنا نجهد أنفسنا بالقراءة والبحث في المجلات والكتب الأدبية والفنية والعلمية والتاريخية ، لم نترك كتاباً نحصل عليه إلاّ و نقرأه ثم نتناقش بما جاء فيه ، كما كان البعض من مدرسينا يحثّوننا على القراءة الخارجية أيضاً ، كنّا وقتها نتباهى فيما بيننا بما نقرأ ونذكّر أحدنا الآخر بالكتاب الفلاني والمرجع كذا وكذا ، لهذا طرقنا أبواب الكتابة بكل فنونها مبكّرين ، وصرنا نعشق الأدب والمسرح والموسيقى والرسم وكل ما له صلة بصناعة الجمال ، كنّا نتباهى بما نحمل من كتب ونحن نمشي في الأسواق أو نجلس في المقهى نقرأ ولا نضيّع وقتاً أبدا ، في الشارع ، في البيت ، في السيارة ، في المقهى ، وفي العمل ساعات الاستراحة تجدنا نقرأ بنهم !! هذه كانت ميزة جيلنا والأجيال التي سبقتنا ، بحيث صار ومازال الكتاب خير جليس لنا فعلاً في السرّاء والضرّاء وطبّقنا المثل الذي كنا نسمعه ــ القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ ــ علينا كأجيال وسمتها القراءة والبحث عن المعرفة بميسمها ، فصار الكتاب لصيقاً بنا في كل حين !!
استذكرت تلك الأيام وأنا أتساءل :ــ أما زلنا نقرأ ؟! لم أقصد بتساؤلي هذا جيلي وما سبقني ، بل الأجيال اللاحقة التي ولدت إبّان أتون الحروب والحصار والتغيير واستشراء الفساد الإداري والمالي، إذ تجدهم ــ لا أقصد الكل طبعاً ــ بعيدين كلَّ البعد عن الكتاب ، حتى إنّ البعض منهم يستنكف من حمل الكتب المدرسية ويستعيض عنها بدفتر كشكول ، يكتب فيه كل شيء !! الغالبية منهم الآن شغلهم الموبايل ومواقع التواصل الاجتماعي فصاروا في شغل عن القراءة وجمالية الكتاب ، وأخذ البعض من المحسوبين على أجيالنا بالاستعاضة عنه أيضاً والتصفح في الانترنت والاطلاع بشكل سريع على هذا الإصدار وذاك دون أن يحملوا أنفسهم عناء القراءة والبحث !! شبابنا الآن مسحورون بمقاهي الاركيلة وتصفح ألنت دون وعي وبلا معرفة ، وانحسرت الثقافة العامة والمعرفة الكلية لكل جوانب الإبداع ، كما انحسرت القراءة ولم نجد مكتبات مدرسية أيضاً ، فباتوا مهووسين ببعض القصائد العامّية المليئة بالإسفاف والرداءة تاركين ما تنمّ عن وعي كبير وثقافة عالية ، ولا يقتربون من الفصيح بكل أشكاله ، وحتى الدراما التلفزيونية صاروا لا يتابعونها !!
التفاتة قصيرة إلى الوراء نبصر أين كنّا وعياً ومعرفةً في كل الفنون ، وبمقارنة بسيطة على ما فيه شبابنا الآن نصفق كفاً بكفٍ حسرةً وآهةً على ما جرى ويجري من تجهيل للوعي والمعرفة ومحاولة طمس كل ما يُحرّك العقل نحو الخلق وصناعة الإبداع والجمال ! الاهتمام بالشباب والنشء الجديد وحثّهم على القراءة ضرورة تقع على عاتق الآباء والمدرسين وأساتذة الجامعات والقنوات الفضائية ومنظمات المجتمع المدني والعمل على توعيتهم بكل ما نستطيع من قدرة إقناع لأنهم مستقبل الوطن ولنجيب بصوت واحد :ــ سنظل نقرأ !!