لحسن ملواني *
في العقود الأخيرة ، بدأ التشكيليون المغاربة ـ وبشكل ملحوظ ـ يراكمون تجاربهم المتنوعة في مجال هذا الفن الجميل ،ومع هذا التنوع المتجدد تظهر تجارب رائعة تستحق الالتفات إليها وتستحق التوثيق إذ تستوقفك لتجد فيها من أسرار الجمال الشيء الكثير.
ومن بين الأعمال الرائدة والمتميزة بلا منازع، ما يبدعه الفنان التشكيلي المغربي عبد الرحيم الفولى من أعمال خلابة وساحرة للمشاهد ، إبداعات تعتبر إضافة نوعية وبصمة خاصة لما ينجز في المجال التشكيلي داخل وخارج المغرب.
فنان مغربي من مدينة سيدي سليمان وأستاذ مادة التربية الفنية يبصم الساحة الفنية بلوحات بها من المواصفات ما يمنحها تميزها وخصوصيتها الإبداعية.أعمال ممتعة تجسد عصارة خبرة وتفاعل واحتكاك بالمجال التشكيلي المفتوح لتعدد التجارب والبحث عن بدائل الممكنة وجديدة تثري الإبداع وتدفع به نحو التطور والتجدد بصيغة أو باخرى.
واقعية ساحرة
إذا كانت الواقعية حركة فنية راسخة أثبتت حضورها منذ منتصف القرن التاسع عشر بدءا من فرنسا ،فإنها ما تزال تتوازى مع التيارات والمدارس الإبداعية الأخرى إلى اليوم.
والمنجز الإبداعي للفنان المغربي عبد الرحيم الفولى متشح بالسمة الواقعية بلمسات تحبب المَشاهِد التي يموقعها في كل أعماله ، أعمال فنية تحمل مشاهد يومية في فضاءات مختلفة … موضوعات لها علاقة بالناس مستقرين ومتنقلين ،عاملين ومتأملين …مفردات يحسن الفنان انتقاءها وجعلها ثيمات لأعماله الفنية الجميلة ، وكأنه يتصور ويستحضر وقعها على نفسية المشاهد قبل أن يقتنصها وينتقيها موضوعات للوحاته.وهو في ذلك مائز الإخراج لوضعيات الأماكن والشخصيات بملامحها ومظاهرها بما تحمله من مشاعر الحب و الحزن والفرح والتفكير .
وحين تقف أمام لوحاته تنجذب إليها لتنخرط في أجوائها لتعاين ما يسري في فضاءاتها من حركة تجسدها الشخصيات بحركاتها وتنقلاتها وقسمات وجوهها…لوحات بهذا المنحى لوحات تستبطن دينامية تجعلها ساحرة بعيدا عن السكونية والجمود.
سحر توثيق التراث
على غرار فنانين مغاربة كالفنان محمد بوصابون و الفنانة حليمة الفراتي والفنان محمد الهواري وغيرهم ،ينسج عبد الرحيم الفولى لوحاته عبر توثيق للتراث بجمالية تحببه إلى أجيال لم تتفاعل معه في الوقت الذي يجتاح العالم استحواذ عولمي على خصوصيات وتراث الأمم. والاهتمام بالتراث من قبل المبدعين في كل مجال أمر ملحوظ في كثير من أعمال التشكيليين في الوطن العربي بالخصوص ، ذلك أن عمق الجمالية فيه يدركها المبدع قبل غيره. وكل لوحة من لوحات عبد الرحيم تجسيد جلي للملمح التراثي في بعده الجمالي والتاريخي، ووفق مقاييس جمالية تدفع إلى التفاعل معه تفاعلا وجدانيا وتأمليا ، إلى جانب اختيار الشخصيات الحاملة لأشياء من التراث سواء كان ذلك حليا أو ملبسا ،أو ضمن فضاء يحمل معمارا له علاقة بالماضي…
فتجد الرجل بعمامته وجلبابه يمارس حرفته في التجارة أو الحقل أو في محترف للصناعة التقليدية ..وتجد المرأة بمنديلها وقفطانها ودملجها وكل ما يحيل على تراث أمازيغي ومغربي جميل يقاوم الزوال ويقاوم الإهمال. والفنان في هذا الإطار يمتلك دقة الاختيار ودقة الموضعة للشخصيات وكل مفردات اللوحات بشكل رائق ورائع جاذب : في لوحة تجد شخصين بصدد بيع فواكه وخضر وعلى ملامحهما يتوهج الانتظار، وفي لوحة تجد امرأة مسنة بعينين مركزتين على مغزلها في حركة تدل على حبها لمهنتها، وفي لوحة امرأة تدير الرحى بتؤدة واطمئنان يدل على اعتزازها بما تفعل، وفي لوحة امرأة عجوز ترشف الشاي من كأس يحمل نقوشا تراثية حاكاها الفنان بدقة متناهية،وفي لوحة تجسيد لسوق الغنم بأهله وهو في حالة الأخذ والعطاء والبيع والشراء،وفي لوحة جماعات من الناس بأعمارهم المختلفة في شارع طويل منهم الغادون ومنهم الرائحون في حركة دائبة،وفي لوحة شيخ معتزل في زاوية يمارس حرفة صنع القفف من سعف النخل…لوحات آسرة بهية الملمح فريدة المفردات بالشكل الذي حولها إلى ما يشبه شاشات تقدم المعيش اليومي والتراث العريق عبر أشكال وألوان متوهجة ومبهجة.
سحر اللون وجمالية اللمسة
في كل أعمال الفنان عبد الرحيم الفولى تجانس جلي من حيث أسلوبه وتقنياته ولمساته الأمر الذي يجعلك تدرك انتساب اللوحة إليه حتى ولو لم يقم بتوقيعها، دقة في الظلال ودقة في الأبعاد علاوة على الدقة في الاختيارات اللونية المتعددة التي تقتضيها كثرة المفردات التي تنحشر في ذات اللوحة مما يحيل على الجهد والوقت المستغرقين في إنجاز اللوحة الواحدة بكل المقومات التي ترفعها إلى المقامات الجمالية التي أشرنا إلى بعضها.
سحر الألوان و دقة تنسيقها و دمجها واللمسة المدروسة والمحيلة على الخبرة بالمقاسات وهندسة الأشكال مع حسن الاستنباط لمشاهد دون أخرى…كل تجد له حضورا قويا في كل أعمال هذا الفنان ،أعمال ستظل تشدنا إلى واقعنا كما هو بعيدا عن إبداعات تعتمد الخيال والترميز وغيرهما مما يجعلها للنخبة فحسب.
كاتب من المغرب