وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

ادب وتراث

رواية “حين تركنا الجسر” للروائي عبد الرحمن منيف – قراءة بعد 40 سنة!

بقلم : حسين كركوكلي

اعدت قراءة رواية (حين تركنا الجسر) للروائي  عبد الرحمن منيف في نيسان 2020 بعد قراءتي الاولى لهذه الرواية في بداية الثمانينات من القرن الماضي ,وقد خط عبد الرحمن منيف هذه الرواية بعد الروايات :- الاشجار واغتيال مرزوق والشرق المتوسط وقصة حب مجوسية. رواية حين تركنا الجسر, تشبه من حيث الشكل قصة الشيخ والبحر للكاتب الامريكي ارنست هنمكواي وربما تقليد لتلك القصة الملهمة للكثيرين في العالم!. ففي قصة الشيخ والبحر لهمنكواي نرى بطل القصة سانتياكو صياد السمك الفقير الكوبي الطاعن في السن يصارع قساوة الطبيعة ولفحة الشمس الاستوائية وسوء الحظ من اجل صيد السمك في ساحل قرية كوبية مطلة على البحر.

ويحادث نفسه تارة , ويتحدث مع السمكة الكبيرة مارلين التي اصطاده تارة اخرى. وفي رواية حين تركنا الجسر لعبد الرحمن منيف نرى الشخصية الرئيسية في الرواية زكي نداوي ايضا صياد ولكن صياد الطيور, يصارع الطبيعة وسوء الاحوال الجوية والبرد , ويعيش في صراع مع ذاته ويحادث كلبه . لكن الفرق شاسع في مضمونهما فقصة الشيخ والبحر قصة واضحة لا تحمل التأويلات والتحليلات ,فمكان القصة وزمانها ورمزياتها معروفة وواضحة فهي قصة الانسان الكادح من كوبا من احد دول امريكا اللاتينية حيث تمتزج الفقر بالفلكلور الشعبي مع طقوس ومعتقدات الكثلكة. هذا الانسان الذي يعيش ليومه , من يده الى فمه!. انها قصة الانسان الكادح المتحدي والغير القابل لشفقة الاخرين, وحتى لعطف بنته التي تعيش في هافانا , انها قصة البشر في كل مكان وزمان في العالم , وهو الصراع المستمر منذ الازل من اجل لقمة العيش والكرامة.

وصراع الصياد سانتياكو مع السمكة مارلين ينتهي بخسارته امام جبروت موجات البحر واسماك القرش التي تفتك بالصيد الثمين المربوط بجانب القارب.لكنه في النهاية صنع الرجل العجوز ملحمة انسانية استثنائية في الصراع مع فريسته (السمكة مارلين) واسماك القرش التي هاجمت الفريسة,فهو لم يستسلم , ليثبت انه انسان قادر على العطاء رغم كل شئ. ورغم ان قصة الشيخ والبحر واضحة لكني شاهدت بعض التفسيرات التعسفية لها. ويطلق بطل القصة ( سانياكو) قولته الشهيرة :

A man can be destroyed but not defeated”

(يمكن تدمير الرجل , ولكن لا يمكن هزيمته).

اما رواية حين تركنا الجسر , الرواية الرابعة لعبد الرحمن منيف , كتبه في نهاية السبعينات بعد مدة من خسارة الدول العربية الحرب مع اسرائيل وفي فترة الشعور بالاحباط والهزيمة واليأس من كل ما هو ايجابي والشعور بالخيبة تمتلأ ذلك الجيل.

فهذه القصة تحمل الكثير من الترميز والابهام والتأويلات.وتستطيع ان تفسر الاحداث المذكورة في الرواية بتفسيرات مختلفة , لان عبد الرحمن منيف كان يريد ان تكون رواياته التي كتبها في السبعينات قابلة للتاويل والتحميل المتنافر.فهي رواية مسهبة بالترميز بشكل مغالي جدا , واشبه بالمدرسة العبثية نتيجة اليأس والصراع مع الهواجس والذات, فلم يكتب عبد الرحمن عن مساحة ضيقة في هذه الرواية ,كما فعل في روايته الشرق المتوسط. ربما هذه الطريقة منح الكاتب مساحة واسعة لنشر كتبه وعدم جلب عداوة الانظمة العربية له بشكل سافر.

الروائي عبد الرحمن منيف

فهو خلاف خماسيته المشهورة رواية (مدن الملح) والتي تؤرخ بشكل واضح اكتشاف النفط وتأثيراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية على سكان السعودية ودول الخليج. فمن من غير المتعارف في بداية الثمانينات ان تدخل الى العراق كتاب بمضمون رواية الشرق المتوسط حول التعذيب في سجون الانظمة العربية وتباع في المكتبات.

مضمون الرواية (حين تركنا الجسر) لصياد يدعى زكي نداوي في صراعه بالفوز بالطريدة (ملكة البط) يصاحبه كلب اسمه وردان وهو صاحبه الوحيد له حيث يعيش زكي وحيدا مع كلبه الذي يصب عليه جل غضبه ويركله احيانا ويسبه ويشتمه احيانا اخرى, فتراه ساخطا ولاعنا لكلبه المسمى وردان ففي احد المرات يقول لكلبه :ايها الخنزير تحولت الى جيفة بعد ان شربت من هذه المياه.

ومرة اخرى يقول للكلب: لماذا لا تتفل في وجهي؟!.

او يقول له:نحن اكثر من اخوة (ياوردان)!.

يروي زكي نداوي لكلبه ذكرياته عن الجسر وذكريات عن والده المتوفي ويحادث كلبه خلجات نفسه ونوازعها.

فربما هذه الرواية في الاصل هي خلجات نفس الكاتب عبد الرحمن منيف حين اطلق العنان ليراعه ليكتب ما يدور في مخيلته وفي خلواته مع ذاته على لسان بطل روايته زكي نداوي. فزكي نداوي انسان مضطرب يعيش الوهم والخيال والخيبة والهزيمة, ولا يصيد من اجل النزهة بل لقتل الوقت! . فهو يعيش زمنين في نفس الوقت ,زمن الحاضر والذي يحاول جاهدا للفوز بالملكة, الطير الخيالي والاسطوري في مخيلته , وزمن الماضي ,حيث الذكريات المألمة للهزيمة والانسحاب من الجسر وتركه للعدو سالما وعدم العبور للجهة الاخرى, والتي اثرت على نفسية زكي نداوي وجعله يشعر بالخيبة والخسران والاخفاق. فعندما يفكر بطل الرواية بالجسر ويتحسر ويندم على عدم عبورها مع رفاقه الى الطرف الاخر من النهر وربما يرمز الكاتب الى الارض المحتلة من قبل العدو , والى عدم نسفها عند الانسحاب حتى لا يستفيد العدو منه, فهذا الماضي يألمه كثيرا ويشعره بالاحباط واليأس والخيبة ويورد زكي نداوي بعض العبارات في محادثته مع نفسه او مع كلبه,منها:

– الخيبة تُولَد كل يوم، تنبثق مع شروق الشمس، ومع ارتفاعها تتمدد بفعل الحرارة والرخاوة وبفعل ذلك الإستسلام العاجز.

– هؤلاء الناس يخفون تحت ثيابهم افكارا شريرة .

– كل شئ فيّ يعوي بالخيبة.

– الانسان يتمتع بغرائز منحطة.

– لقد اختنقت , خنقني الخيبة.

– ما اتعس الانسان عندما يحاول القاء فشله على وهم ما.

– زكي نداوي انسان معطوب, انحلت فقرات ظهره واصبح يشبه هرّا عجوزا.

– الطير الذي لا يعرف عشه يستحق ان يضرب بالحذاء حتى يفتت.

– من تكون انت يا زكي نداوي؟ ندبة صغيرة؟ .

– الحيوانات احسن آلاف المرات من البشر.

– الهزيمة العلة التي تربض في دمي.

– لقد اختنقت,خنقتني الخيبة.

– اليأس ينتشر في روحي كما لو انه دم آخر.

– سانتقم من غيرك, من الذين قادونا الى الهزيمة.

– االكبار هم الذين يخلقون الهزائم، والصغار هم الذين يموتون.

– الخيبة حبل طويل , حتى ليبدوا بلا نهاية.

– لو ان الانسان يتطهر بالالم لنجا من خطايا كثيرة.

– يازكي انت بعوضة مسنة ليس فيك الا طنين أعور.

– من انا ؟ انا حيوان بلا ذاكرة.

– انتزعت يدي من اعماقي , وقلت لها امتدي يا راية الهزيمة.

– الفشل يجر فشلا آخرا.

– لتقتل الافكار المصابة بالجرب…لانها قادتنا الى الهزيمة.

– لكن غصة اقرب الى يد ثقيلة حزت رقبتي.

-على الانسان ان يتعود على كل شئ :البرد ,الوحدة,الضجر.وتراءت لي كلمة هزيمة ,كدت اقولها!.

-الذاكرة بالنسبة للانسان هي التجربة وهي التي تمنع الهزيمة.

– الحياة حفلة قتل لا تنتهي.

هكذا يحاور زكي نداوي( بطل رواية عبد الرحمن منيف) نفسه حيث الخيبة تنبع من داخله بدون انقطاع ويعيش الانهيار التام والصراع مع الوجود ومع ذاته ولا اية امل او بصيص نور, ومن شدة فقده واضطرابه يستعمل الكلمات النابية.

وقد اغرق عبد الرحمن منيف الرواية بالجمل والكلمات المقززة وبالسب والشتم !, فمثلا عندما يخاطب زكي نداوي الطريدة: لن تفلتي مني ايتها الزانية. ……… الخ.

وزكي نداوي في كل مرة يتذكر الجسر,بل يعيش الجسر في تلافيف دماغه , والجسر هنا الرمز المكاني في الرواية فهو ترمز الى الهزيمة والسقوط والتراجع وانتصار العدو باستيلاءه على الجسر حين تركه مع رفاقه للعدو بدون قتال او دفاع عنه , قد اشعل في داخله نارا لا يطفأ, يعيش حسرته, حسرة ترك الجسر للعدو.

فدائما يلوم نفسه ويقول:

– وافضل الف مرة لو مت عند الجسر.

– لن اترك الجسر حيا في المرة القادمة.

– كان يجب ان ننسف الجسر.

تنتهي الرواية بصيد زكي نداوي لطريدته الطير وقد اسماه (الملكة) في نهاية المطاف في ليلة مقمرة ,بعد كفاح طويل مع الظروف البيئية والطقس الردئ , ولكن بعد ما يصيده يتراءى له انه اهدر وقته عبثا في صيد طريدته حيث يصفها:ان الملكة تشبه بومة قبيحة, وانه كائن قبيح بارد!.

وان انتصاره على هذه الطائر لا تساوي خسارته للجسر.

فلا يعطي الكاتب اية بارقة امل في روايته للانتصار المادي واصطياده لطريدته .

ولكن عند عبد الرحمن منيف حلا في آخر المطاف لبطله للخروج من المأزق والخيبة فيجري زكي نداوي حوارا مع احد اصحابه:-

زكي نداوي : والجسر.. ألا يعني شيئاً؟

صديقه : يمكن دائماً بناء الجسور… الصعب هو بناء الانسان.

زكي نداوي: بناء الانسان؟

صديقه: نعم بناء الانسان من نوع جديد!

زكي: تقصد انساناً لا يترك الجسر؟

صديقه: أقصد انساناً لا يترك الجسر ويعرف كيف يتصرف.

ويردد زكي نداوي مع نفسه : بناء الانسان,وليس بناء الجسور ,انسان لا يترك الجسر ويعرف كيف يتصرف.

اذن يكتشف بطل رواية (حين تركنا الجسر) زكي نداوي اصل المشكلة والحل, بناء انسان من نوع جديد , انسان لا يترك الجسر ويقاوم ولا ينهزم ويعرف كيف يتصرف في وقت الشدة والحروب والمحن.

وبعد ان يتوضح له الامور يترك العيش لوحده و يضيع في زحام البشر حيث الوجوه الحزينة … ويتأكد ان جميع الرجال يعرفون شيئا عن الجسر وينتظرون لفعل شئ ما. فرواية حين تركنا الجسر من روائع عبد الرحمن منيف وهو من النوع السرد الممتع والتي تشد القارئ لقراءتها ومعرفة افكار وفلسفة كاتبها.

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961