عبد الجبار العتابي
كثيرة هي الشخصيات المعروفة التي ركبت القطار وصادفتها فيه او التي التقيتها في المحطة العالمية للسفر الى اتجاهات اخرى وكانت الذكريات معها جميلة ، ولكن للاسف ما عادت الذاكرة تحتفظ الا بالقليل من تلك الاسماء والمواقف ، عشرات الفنانين والادباء والصحفيين الذين صارت لي علاقة معهم فيما بعد ، بل وقد شهدت تصوير اعمال تلفزيونية لكنني لم اهتم بها فأعرض عنها ولا زلت اتذكر انني جئت الى المحطة العالمية ووجدت حشودا تتجمع حول السكة ، نظرت وجدت كاظم الساهر يصوّر مشهدا لمسلسله (المسافر) كان يمشي وسط السكة وبيده عوده ، اعيد المشهد مرات فتركته ذاهبا بعيدا عنه وانا اعلق (كوة.. ما تعرف تمثل) !.
اذكر الصحفي (منسي سلامة) الذي كان مسافرا الى الموصل،كنت اعرفه من خلال كتاباته في مجلة الف باء فقط، عرفته وعرّفته بنفسي، كان لوحده في المقصورة / الدرجة الاولى ، ربما ما كان يريد ان يضايقه احد وليأخذ راحته ، وكنت اجلس معه على فترات متقطعة من السفرة حسب الفراغ الذي لديّ، كنا نتحدث عن اشياء شتى والصحافة ، اخرج سيكارة وقدمها لي فشكرته لانني (لا ادخن )، وبعد ان انتصف الليل اخرج قنينة ويسكي وقدحين وبعض المزة ، ناولني كأسا قلت له : (لا اشرب)، تفاجأ واستغرب وراح ينظر في وجهي كأنه يتساءل كيف لا ادخن ولا اشرب وكان من الممكن ان اكون نديمه في ذلك المساء ، ومع ابتسامته ، سمعته يقول لي : هل لديك علاقات نسائية ، فقلت له : لا ، فضحك وهو يقول (معقولة ؟.. انت شلون صحفي لا تدخن ولا تشرب ولا عندك علاقات نسائية؟) ، ثم قال :هذه علامات الصحفي الجيد الثلاث ، واضاف : لا يمكن ان تكون صحفيا جيدا اذا لم تمتلك هذه العلامات !!.
وذات سفرة صعد في القطار الذي انا فيه الصحفي سلام الشماع ، ما كنت احبه لانه اسمعني كلاما لم يعجبني حينما تحدثت معه في جريدة الجمهورية قبل ان اعمل فيها ،كان وقتها مسؤولا عن صفحة (استطلاعات) جئته بموضوع عن (النكتة) لنشره في هذه الصفحة لكنه رفض بحجة ان الصفحة هذه ينشر فيها للاسماء المعروفة الكبيرة امثال فلان وفلان، وقال لي انت غير معروف ، لم ينشر الموضوع فصار عندي معه موقف فلم احببه ، ولكن في هذه السفرة التي كانت بعد سنتين من ذلك اللقاء،وقد صرت اعمل في قسم التحقيقات في الجمهورية ، وجدت في تواجده فرصة لنشر موضوع لي ،كان هو حينها مسؤول قسم المحليات ، حاولت ان اهتم به وزوجته التي كانت معه وابدي احترامي لشخصه ، وقد عرفته بنفسي وانني اعمل في قسم التحقيقات وهكذا صارت علاقة محدودة بيننا ، قلت لاستغل وجوده واخبره عن موضوع لي قدمته للراحل ماجد عزيزة مسؤول قسم التحقيقات ولم ينشره ، اخبرته تفاصيل الموضوع ، قال وجدت الحل، قال لي اعطني خبرا عن الموضوع وسوف انشره وانا اعرف عندما انشره سيسارع ماجد الى نشر التحقيق الصحفي باعتباره سبقا صحفيا بالنسبة له، فكتبت الخبر على الفور واعطيته له ، وبعد يومين او ثلاثة نشر الخبر ،وبالفعل مثلما قال سلام كان المرحوم ماجد مهتما كثيرا بالخبر ومن ثم بالتحقيق فنشره في الاسبوع نفسه .
ومن الطرائف كان ذلك اللقاء في المحطة العالمية مع الصديق الشاعر حسين علي يونس الذي كان مسافرا مع اسرته الى البصرة ، لكنه وقبل ان التقيه سأل احد العاملين في المحطة عن قطار البصرة فأشار الي قطار الموصل بالغلط ، وما كان من حسين الا ان صعّد زوجته وابنه وابنته في قطار الموصل ، وخلال حديثي معه لم يذكر لي شيئا عن صعودهم، ولكن بينما انا وهو نتحدث تحرك قطار الموصل ، فسألني حسين :هل هذا قطار البصرة ؟ قلت له : لا ، فأصابه الفزع لان افراد اسرته فيه وهم يعتزمون الذهاب الى البصرة ، فما كان منه الا ان نادى على زوجته انهم في القطار الخطأ وطلب منها ان ترمي الحقائب من الشباك ، فيما انا انطلقت بسرعة السهم نحو القاطرة اطلب من سائق القطار التوقف فتوقف بعد ان سار اكثر من 100 متر ، ونزلت زوجته وابنه وابنته وعادوا يمشون على السكة منزعجين من هذه المفارقة ،فيما كان قطار البصرة على وشك الانطلاق ، حسين يتذكر الموقف فيقول لي عني (انت انرعبت ورحت تركض ولا فرس الخيل وانا قلبي صار في حذائي) ويضيف ضاحكا (وهمزين جان وصلنا للموصل ههههههههههههههه) !!
من المواقف المحزنة لي مشهد المطرب الراحل (حسين إسعيدة) العائد من الموصل الى بغداد ،وانا اراه محشورا وسط زحمة من المسافرين في غرفة (الكوشيت/ جلوس) في ذلك الجو الحار ، كان القطار مزدحما جدا ولا مجال فيه ابدا ، ونام وسط (الهوسة) بشكل غير مريح ،احزنني المشهد وكنت اتمنى لو كان هناك مكان في مقصورات المنام لأتيت به وبالتأكيد ستكون ليلة من اجمل الليالي ولكن !!.
كما احزنني في السفرة ذاتها مشهد نوم الفنان الراحل مطشر السوداني وقد رمى نفسه على ارضية القطار بالقرب من باب احدى العربات وكان كل من يمر منه لابد ان يدعس قدميه ، ورثيت لحال الفنان العراقي الذي حتى محطات القطار لا تقدره !!
اما المذيعة المعروفة سهاد حسن فكانت هي الاخرى في احدى سفراتي على القطار النازل من الموصل ولكن في مقصورة منام مع اسرتها / كما اعتقد، اتذكر انني عرفتها بنفسي وطلبت ان اجري معها حوارا صحفيا لكنها قالت بكثير من الثقة ولم اكن اعرف ظروفها : لن ينشره لك احد ، لم تعطني السبب لكنها اكدت ذلك مع قولها ان ليس لديها مانع ، فاحترمت رأيها .
ذات مرة صعدت الى القطار الصاعد الى الموصل فتاة شابة قالت انها تعمل ممثلة مع الفرق المسرحية التي تعمل في الموصل ، اسمها رونق البصري، كان مكانها في العربة السياحية ،في وسطها تماما، ،حين مررت في العربة ،بعد منتصف الليل، في جولة روتينية على العربات ، وجدتها تدخن وكل ركاب العربة من العسكريين ، وجدتهم جميعا ينظرون اليها ، الذين امامها والذين خلفها وبعضهم واقف على طوله ، ابتسمت للمشهد الذي رأيته امامي مثل الاسود المفترسة التي تنتظر الفرصة لافتراس الغزالة ، سألتها : هل ترين ما ارى ؟ قالت : نعم ، ما باليد حيلة !!، قلت لها : الا تخافين؟ اعتقد ان بقيتي هنا سيأكلونك ، احسستها خافت فعلا ، فقالت وهي تقف : فعلا احسهم راح ياكلوني خذني معك .
هناك سفرات .. جاء بها معي زملاء صحفيون للاستمتاع والسياحة في الموصل ومثلما اقول (على واهسي) ،فكانت فعلا سفرات جميلة ابتداء وانتهاء بالمحطة المركزية،اذكر منهم الزميل الراحل الشهيد محمد بديوي الشمري الذي دخل الموصل اول مرة وجلت به على الكثير من اماكنها ، وجاء معي الزميل نبيل وادي ،فكانت السفرة كلها مرحا وغناء ومشيا من محطة الموصل الى مرقد النبي يونس (ع) وهي مسافة طويلة جدا ،كما زرنا العديد من الاماكن الشهيرة هناك ، اما الزميل الحبيب الى قلبي كريم كلش فقد قررت الاستفادة من كاميرته وسجلت العديد من الحوارات الصحفية مع شخصيات موصلية حتى اتعبته، فلم يستمتع كثيرا بالسفرة ، والحزين في الامر ان جميع الافلام (النكتف) احترقت فضاعت اجمل الصور الموثقة لتلك السفرة .