د. طه جزاع
كان سائق سيارة الأجرة الماليزي المسلم الذي استأجرته من منطقة سكني في سيتا باك Setapak يحاول أن يتبادل معي أحياناً بعض الكلمات بلغةٍ عربية ركيكة ، وبلغةٍ انكليزية أكثر ركاكة لكلينا في أحيان أُخر ، حتى وصلتُ بعد نصف ساعة إلى مبتغاي ، الشارع الصيني في العاصمة الاقتصادية والتجارية كوالالمبور القريب من مركز المدينة في تايمز سكويرTimes Square على امتداد ما يطلقون عليه شارع العرب في بكت بنتانغ Bukit Bintang وقد حاول الرجل قبل أن أدفع له الأجرة وأترجل من السيارة ، أن يقول لي بلطف لكن بنبرة تأكيد : إحذر أن تأكل شيئاً هنا فأنت مسلم ، وكل طعام في هذا السوق حرام شرعاً !
قد يبدو هذا التحذير – النصيحة أمراً عادياً من سائق أجرة محلي لسائح أجنبي يرتبط معه بصلة الدين ، في بلد يتقاسم الهوية الوطنية فيه أتباع ثلاث ديانات رئيسة هي الإسلام والبوذية والهندوسية وما يتفرع عنهما من مللٍ ونحلٍ ، لكنه يعكس في جوهره اختلافاً عميقاً في الهوية الثقافية ، يبدأ من شكل الملابس ، واللغة والدين والعادات ، ولا ينتهي عند نوعية الطعام الذي وجدتُ بعضه في مطاعم الشارع الصيني ، ومنها مطاعم الضفادع المرسومة على واجهاتها للجذب والإغراء ، وكذلك عند عربات المشويات التي تعرض ضفادع مسلوخة الجلد ، مستطيلة الجسد ، ناصعة البياض ، تبدو وقد مَدَّ الباعة أذرعها وأرجلها ، كأنهن راقصات باليه بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي! . غير أن الماليزيين بمختلف اصولهم العرقية الملايوية والصينية والهندية ، واختلاف دياناتهم اعتمدوا منهج التسامح مع الآخر ، وتقبل عقيدته وعباداته وثقافته وعاداته في الملبس والتصرف والطعام ، وبالنسبة للسائق الملايوي المسلم الذي أوصلني إلى السوق الصيني ، فأن أكل الصينيين للضفادع صار أمراً طبيعياً جداً لا يستوجب الاشمئزاز ولا الاستنكار ، فمن غير المعقول أن تتمزق الهوية الوطنية بسبب .. ضفدع صيني!
أيقونة لجلب المال والحظ السعيد
هؤلاء الجنس الأصفر ، أصحاب التنين الأحمر ، والوطواط الأشهر ، يشكلون ما يقرب من ربع البشرية ، سواء في الصين بتعدادها السكاني الذي يبلغ المليار وخمسمائة مليون نسمة تقريباً ، أو في أكثرياتهم أو أقلياتهم الموزعة في تايوان وهونك كونغ وسنغافورة وماليزيا وتايلند والفلبين واندونيسيا واستراليا والهند وأمريكا وفي بلدان أخرى آسيوية وأفريقية وأوروبية ، تجنسوا بجنسياتها مع احتفاظهم بطباعهم وتقاليدهم ، فهم يعتبرون أنفسهم ” في مهمة خارج الصين ” على حد تعبير محمد حسنين هيكل ، وينطبق هذا القول على الأقلية الصينية في الولايات المتحدة التي يقرب تعدادها من أربع ملايين نسمة ينتشرون في أغلب الولايات الأميركية ، في نيويورك وواشنطن ولوس أنجلوس وبوسطن وشيكاغو وغيرها . هم يثيرون دهشة العالم ، لا بأجسامهم النحيلة ، وعيونهم الصغيرة ، وانوفهم المفلطحة ، وابتساماتهم الخجولة وتهذيبهم الجم ، فحسب ، إنما بمثابرتهم ونشاطهم وجديتهم ، وصناعاتهم التي غزت الأسواق شرقاً وغرباً ، حتى صار من النادر أن تدخل سوقاً ولا تجد فيه سلعة صينية بسعر مناسب ، لكنها في الغالب من سلع العولمة التي تباع بسعر رخيص على حساب الجودة والنوعية والكفاءة ، فالصينيون يصنعون ويصدرون كل ما يخطر على بال المستهلك ، أو مالا يخطر على باله ، من ابرة الخياطة ، والأدوات المنزلية ، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية ، وملابس ولعب الأطفال ، والقرطاسية ، وشباشب الحَمامات ، ومستلزمات الحلاقة والتجميل ، إلى عروس جميلة بمشاعر لابأس بها تُغني الشباب عن مصاعب ومشاكل الزواج بفتاة حقيقية ! . المهم عند الصيني أن يكسب المال الذي هو مصدر السعادة في حياته . وعادة ما تباع في المحال الصينية تحفاً ملونة ومذهبة من البورسلين تمثل قطة جميلة تحرك يدها وكأنها تجلب لك شيئاً ما ، وهي أيقونة يؤمن الصيني بها ، ويتفاءل بأنها ستجلب له الحظ السعيد ، والمال الوفير ، لو وضعها في صالة بيته ! .
صداعٌ في رأس النظام العالمي
وفي السياسة الدولية ، كانت الصين ، ولا تزال ، تمثل قلقاً حقيقياً وصداعاً عالمياً للكثير من الساسة وصناع القرار والمفكرين الاستراتيجيين ، لاسيما حول مكانتها في النظام العالمي الجديد ، ودورها في عالم القرن الحادي والعشرين ، وفي كتابه ” النظام العالمي – تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ – ترجمة ، د . فاضل جتكر ” يبحث هنري كيسنجر في أنواع الأنظمة العالمية عبر التاريخ في أوروبا وروسيا وآسيا والشرق الأوسط ، وفي علاقات الولايات المتحدة مع ايران ، ويخصص فصلاً عن الصين ونظام آسيا الدولي ، والصين والنظام العالمي ، مستنتجاً أن ” بكين باتت أكثر نشاطاً وفعالية بما لا يقاس على المسرح العالمي . فمع احتمال انبثاق الصين بوصفها أكبر اقتصاديات العالم ، باتت آراؤها وألوان تأييدها مطلوبة في كل من المنابر الدولية . لقد شاركت الصين في عدد كبير من جوانب اعتبار أو هيبة أنظمة القرنين التاسع عشر والعشرين الغربية : استضافة الألعاب الأولمبية ، خطب رؤسائها في الأمم المتحدة ، الزيارات المتبادلة مع رؤساء دول وحكومات بلدان رئيسية في العالم . استعادت الصين ، بكل المقاييس ، المكانة التي عرفت بها عبر قرون تمتعها بأوسع ألوان النفوذ . والمسألة الآن هي الكيفية التي ستختارها للالتحاق بركب عملية البحث المعاصر عن نظام عالمي ، ولا سيما في علاقتها مع الولايات المتحدة ” ، غير أن هذه العلاقة يشوبها الكثير من الشك والقلق ، وربما عدم التفاهم في لغة الحوار وطبيعة المتحاورين ، ومن ذلك ما تذكره كوندوليزا رايس الوزيرة السادس والستون للخارجية في الولايات المتحدة ، وأول امرأة تكلف بمهام مستشار الأمن القومي ، في ذكرياتها من سني حياتها في واشنطن التي ضمها كتابها ” أسمى مراتب الشرف – ترجمة وليد شحادة ” عن عدد من اللقاءات مع الساسة والدبلوماسيين الصينيين ، ففي ذكرى لها تحت عنوان ” انفجار في آسيا وتحدٍ يواجه العلاقات الأمريكية الصينية ” تتحدث عن البرنامج النووي لكوريا الشمالية ، وعن التقارير التي تفيد بأن بيونغ يانغ تخطط لإجراء تجربة نووية تحت الأرض ، وكيف أن الكوريون الشماليون نفذوا تهديدهم – تقصد التجربة النووية الأولى التي نُفذت صبيحة يوم التاسع من اكتوبر / تشرين الأول عام 2006 – وتشير إلى مكالمة هاتفية شديدة اجراها الرئيس الصيني السابق هيو جنتاو مع جورج دبليو بوش ، وكيف أن بوش أعاد إلى ذهن هيو بأن ما تفعله كوريا الشمالية يشكل لطمة إلى بيجينغ – بكين أولاً وقبل غيرها ، سائلاً اياه عما تعتزم الصين فعله أمام هذا الاحراج ؟ .
لا شيء أفظع من حضارة أوروبا وأمريكا
وتمضي رايس في ذكرياتها عن العلاقات الاميركية الصينية مشيرة إلى أن هذه العلاقة قد بدأت في زمن ادارة بوش بطريقة لا تدعو للتفاؤل ” وذلك عندما تم اسقاط طائرة استطلاع أمريكية في نيسان / أبريل عام 2001 – وتعني بذلك حادثة التصادم الجوي بين طائرة استطلاع امريكية وفيها طاقم مكون من 24 شخصاً ، وطائرتين مقاتلتين صينيتين فوق جزيرة هاينان ، والتي سببت يومها نزاعاً دبلوماسياً بين البلدين ، على اثر تحطم احدى الطائرتين الصينيتين وغرقها وفقدان طيارها ، واحتجاز طاقم الطائرة الأمريكية ثم الافراج عنهم ، وتُعرف هذه الحادثة بإسم حادث جزيرة هاينان – لكن ” التفاعل بين البلدين على مدى السنوات التالية بات أكثر استقراراً وإيجابية ” تقول رايس وتشرح ذلك موضحة ” عقب وصولي إلى الخارجية مباشرة طلبتُ إلى بوب زوليك أن يتولى مسؤولية خاصة في تعزيز التفاعل الأمريكي الصيني . في أول زيارة له إلى بيجينغ ألقى بوب خطاباً هاماً حث فيه الصين لتكون صاحب مصلحة مسؤولاً في الشؤون الدولية . وقد احتاج الصينيون لبعض الوقت ليترجموا هذه العبارة ، لكنهم أحبوها عندما عرفوا معناها وبعد أن فكروا واستنتجوا بأن الولايات المتحدة سوف ترحب بصعود الصين ولا تخشى ذلك ، وأنها تريد بيجينغ أن تكون شريكاً ناشطاً بما يتناسب مع نفوذها المتنامي ” لكنها تشير في الوقت نفسه إلى سهولة هذا الكلام في القول ، وصعوبته في التطبيق ، فهي تلاحظ ان الصينيين يظهرون بمظهر من يردد الشعارات لصالح السلام والازدهار ، لكنهم يعملون لمصلحتهم ، كما انهم ” كانوا يستمعون وربما يتجاهلون عندما نقول أيضاً إن من المفيد لهم أن يحصل تحرير للسياسة الصينية ” وتلوح رايس بذلك إلى النظام السياسي الجامد في الصين ، إذ تأمل ان تتخذ قيادة الحزب الشيوعي الصيني ” خطوة لرفع الغطاء قليلاً ليخرج شيء من بخار الغليان ” . كما أطلقت هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية التي أعقبت رايس تسمية ” مياه مجهولة ” في وصفها للصين ، مثلما جاء في مذكراتها ” خيارات صعبة ” التي أشارت فيها إلى أن العلاقات الأمريكية الصينية ” لاتزال تحمل الكثير من التحديات ، نحن دولتان كبيرتان وهناك اختلاف عميق تاريخياً ، وسياسياً ، على مستوى النظام ، وفيما يتعلق بآفاق المستقبل ” . وترجع جذور الريبة والشك وربما الكراهية بين الصين وامريكا والغرب عموماً ، إلى سنوات بعيدة ، وبالتحديد إلى 1913 سنة اعلان الجمهورية في الصين على يد القائد الثوري والفيلسوف ” صن يات سين ” الذي كان أول رئيس لجمهورية الصين ، إذ ينسب إليه انه قال في سنة وفاته 1925 ” لا شيء أفظع ، ولا أشرس ، ولا أشر من حضارة أوروبا وأمريكا .. تلك المادية المحضة ، والتي نسميها – نحن الصينيين – بربرية . ولعل قوتنا الذاتية ناجمة عن كرهنا وإهمالنا لهذا النوع من الحضارة ، فالطريق الصيني ، طريق الإنسانية والأخلاق ، هو الذي أسمته كتبنا القديمة ، الطريق السليم ” . وبالتأكيد فإن الحرب الكلامية المتبادلة بين البلدين التي يشهدها العالم اليوم على خلفية الاتهامات الأمريكية للصين في مسؤوليتها عن تفشي وباء كورونا ، تؤكد حقيقة وخطورة ذلك الخلاف العميق الذي قد يقود العالم إلى نظام جديد بكل المقاييس ، نظام سيضع معادلاته ” فيروس صيني ” كما أسماه الرئيس ترامب ، قد لا تنفع معه المعقمات والمطهرات !
اندريه مالرو : بلد صبور جداً
في زيارته إلى الصين عام 1973 التي وثقها في كتابه ” أحاديث في آسيا ” يجري محمد حسنين هيكل مقابلة ممتدة مع شو اين لاي رئيس وزراء الصين أيام الزعيم التاريخي ماو تسي تونغ تناولت مختلف الشؤون الدولية ، ومنها العلاقات مع الولايات المتحدة ومع الاتحاد السوفيتي آنذاك ، وقضايا حركة عدم الانحياز ، والعلاقات العربية الصينية ، وبالأخص موقف الصين من القضية الفلسطينية ، ومما يذكره هيكل في كتابه هذا ان كيسنجر اقترح على الرئيس نيكسون وهو ينوي القيام بزيارته التاريخية للصين في فبراير / شباط 1972 أن يقابل الأديب الفرنسي الشهير أندريه مالرو بسبب صلاته الفكرية مع الثورة الصينية ، وحديثه الطويل مع ماو تسي تونغ ، فضلاً عن كونه من دارسي الحضارة الصينية ، وبالفعل تمت دعوة مالرو لعشاء في البيت الأبيض مع الرئيس نيكسون ، وكان مما سمعه الرئيس الأمريكي من ضيفه ” إن أكبر خطأ يقع فيه أي طرف يتعامل مع الصين ، هو أن يتصورها متلهفة على أي شيء .. إن الصين بلد صبور .. بلد صبور جداً ” . وفي تلك الزيارة يتلقى هيكل دعوة للعشاء من ” وو لين شي ” المسؤول عن تحرير كبرى الصحف الصينية ، جريدة الشعب ، ونترك الحديث نصاً لهيكل ليصف لنا سبباً من أسباب ما أسماه بالمعجزة الصينية ، وهو السبب الذي سمعه من محمد فوزي عندما كان رئيساً لوزراء مصر ومفاده انه ليس هناك شيئاً في الصين ” فاقداً أو عادماً أو ضائعاً ” ! …. كيف ذلك .. وما الذي يقصده ؟ . يكتب هيكل : دعاني ” وو لين شي ” إلى عشاء ذات ليلة في مطعم ” بط بكين ” الشهير . كان العشاء سبعة أطباق من بطة واحدة ! . خمس قطع مختارة باردة من البطة في أول طبق . كبد البطة مقلياً في طبق ثان . أضلاع البطة بالصلصة في طبق ثالث . قلب البطة في قطع صغيرة محمرة في طبق رابع . لسان البطة وأمعاؤها والبنكرياس ، مطبوخة مع الخضر في طبق خامس . جسم البطة نفسه أخيراً ، وهو الطبق الرئيسي ، مشوياً في طبق سادس . عظام البطة مسلوقة ، في طبق حساء في النهاية ، وهو الطبق السابع . وأتذكر أنني قلت لـ ” وو لين شي ” ” لم يبق من البطة غير ريشها ، وأرجو ألا نأكله ؟ “. وقال ” وو لين شي ” بجد : ” لا … إن المطعم يبيع ريش البط لأغراض صناعية ! ” . كان هيكل محظوظاً ، لأن مضيفه دعاه لمطعم بط صيني ، ولم يذهب به إلى مطاعم تقدم أكلات أخرى من نوع الضفادع البيض المسلوخة التي تقدمها مطاعم الشارع الصيني في كوالالمبور، أو في المطاعم الشعبية الشبيهة بمطاعم سوق مدينة ووهان التي سببت صداعاً للعالم لازال يئن منه وسيعاني من آثاره طويلاً جداً ، حين تناول أحدهم حساء الخفافيش ، أو تناول لحم أفعى كانت قد التهمت خفاشاً ، فكانت البداية لوباء كورونا الذي اجتاز سور الصين العظيم ليصبح جائحة عالمية ، وستكون الصين سعيدة جداً لو اقتنع العالم بهذه الحكاية ، ولم يذهب به الشك ، ومن ثم البحث والتحقق من أن يكون هذا الفيروس ” مُخَّلَقاً ” في مختبر بيولوجي صيني …. عندها سيقف النظام العالمي الجديد ، على كف عفريت !!
بروفسور في الفلسفة- جريدة الزمان الدولية