بغداد / عبد الجبار العتابي
في الايام الاخيرة من شهر اذار 2003 ، هربت من بيتنا بعد ان ارغمني الرفاق البعثيون هناك على التواجد معهم في الخفارات الليلية وقد اعطونا نحن مجموعة من المستقلين عددا من العصي وتسلحوا هم بالبنادق، هربت الى بيت شقيقتي في الحبيبية وكنت امضي النهار في الجريدة لسماع اخر الاخبار وترقب ما يحدث لكن الايام التالية ، الايام الاولى من نيسان، كانت سيئة وقد تقطعت السبل وغابت سيارات النقل عن الشارع فكنت مضطرا ان ابحث عن مكان يأويني ، لكن الحيرة لم تدم الا قليلا وقد تفضل عليّ الاخ محمد جبير بالمبيت في داره ،كانت فرصة ذهبية لا يمكن ان انساها ابدا ،فقد غمرني بطيبته وكرمه ومحبته، لكنني كنت اخجل كثيرا من هذا الوضع لذلك كان لي رفيق هو الراحل عبد اللطيف الراشد نمضي وقت النهار معا نبحث عن مقهى نشرب فيه الشاي ونستريح من عناء المشي وقد راحت الاسواق تغلق ابوابها ومثلها المقاهي والباعة في سوق باب المعظم وصار (استكان) الشاي (حسرة) علينا مثلما السكائر ، نذهب في كل الاتجاهات ولا نجد ، واذا كنت اتعب في النهار الا ان الليل كانت محطة استراحة لي في بيت الاخ محمد جبير الذي اجد فيه الراحة والطمأنينة فضلا عن الصداقة ، وكنت معه نخرج كل صباح لنقف قرب بناية الجريدة نتطلع الى المارة وما يحملون من اخبار ، فوجئنا بشاب سوري الجنسية يسألنا كيف يحصل على جوازه الذي اخذه منه البعثيون باعتباره من (المقاتلين العرب) ، تركنا وذهب باتجاه الوزيرية ، ونحن نرثي لحاله، وكنا نسأل عما يحدث في الجهة الاخرى وتأتي الاجابات متضاربة ، الى ذلك اليوم الذي اخبرنا زميل شاعر ان ساحة الفردوس تحتضن الحدث الاهم وانه سمع ان التمثال هنالك قد سقط ، لم نتأكد من ذلك حتى شاهدنا جموعا من البشر تقتحم المباني الحكومية وتنهبها وتسلبها وتدمرها وتحرقها ، كانت جريدة الجمهورية بمنأى عن تلك الاعمال ،هناك مركز صحي في الفرع نفسه في احد البيوت التراثية فتم رفع اللوحة .
في تلك الاثناء .. كنا انا والاخ محمد جبير نقف كعادتنا كل صباح قرب مبنى الجريدة ،جاءنا بعض ممن يعملون في الجريدة باقتراح ان نقوم نحن جميعا بأخذ ما تيسر من اغراض الجريدة بدل ان يأخذها اللصوص، وهو كما قالوا امر حتمي، رفضنا طبعا ، حاول هذا البعض الاشارة الى وجود تلفزيونات وحاسبات ومكيفات غالية الثمن ومن (الحرام) ان يأخذها احد غيرنا لاننا اولى بها ، لكن الاخ محمد وانا معه كنا نرفض ان نمد يدنا الى اي شيء من اغراض الجريدة، حتى ان اغراضي الخاصة تركتها خوفا من ان يراني احد احملها ويعتقد إنني سرقت شيئا ما ، كنا نرى المجاميع تمر منا ونحن نتمنى ان لا تقرب الجريدة ولكن الامنيات ذهبت ادراج الرياح ونحن نرى اعدادا كبيرة تقتحم باب الجريدة وهي تحطم كل ما امامها ، جلسنا انا ومحمد جبير على الرصيف تنتابنا العبرات ونحن نشاهد الجموع تخرج وهي تحمل على اكتافها وبين احضانها الكثير من اشياء الجريدة ،لا اخفي ان الدموع كانت تنساب عفوية ،جالس اتأمل ما يجري وانا لا اصدق ما يحدث ، ليس بيننا سوى الصمت والنظر الى الخراب الذي يحصل وقد تحطمت الابواب والشبابيك وتعرضت للنهب ، استمر الحال هذا ثلاثة ايام ، حينها قررت ان اصعد لارى ما كان ففزعت فالبناية عبارة عن فوضى ولم يسلم من التخريب شيء ، الزجاج محطم والمناضد مكسرة والدواليب مخلوعة الابواب وكل ما فيها مبعثر على الارض حتى ان الممرات امتلأت بالاوراق والزجاج المنثور ، دخلت غرفة رئيس التحرير كانت في وضع مزري فلم يبق منها شيء ، نزلت لاحكي للاخ محمد جبير ما رأيت ، لكننا حين قررنا ان نكتفي بما رأينا ذهبنا الى بيته ،فدلفنا الى الشارع الذي فيه مخزن الجريدة ، شاهدنا بعض العاملين يتقاسمون ما فيه ،كانت اشياء ثمينة جدا وكثيرة كالحاسبات والسبالت وغيرها ، احدهم قال لي (خذ سبلتا) اعتذرت له وكذلك محمد جبير، ذهبنا لنجلس في باب بيته على الشارع العام المؤدي الى جسر الصرافية ، كنا نرى الناس في حالة نهب وسلب وفرح غامر ، وبعد يومين قررت ان اذهب الى البيت ، كنت خائفا جدا وامشي بحذر لانني كنت اعتقد ان البعثيين سيرونني وانا غير مصدق ان النظام تغير وانهم هربوا ، والله .. لم اذهب الى البيت مباشرة بل كنت استطلع الشوارع واذهب الى مكان بعيد وانظر حتى تكشفت الامور امامي وصدقت فعلا ان النظام سقط وان البعثيين هربوا.