وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

أهم الأخبار ثقافة وفنون

صلاح جياد رسم بغداد في ذهنه بعد نصف قرن من مغادرتها

عواد علي

لوحاته شكلت مزجا للحاضر بالماضي
لم يمضِ وقت طويل على مغادرة الفنان التشكيلي العراقي صلاح جياد، الذي وافته المنيه في باريس يوم الاثنين 16 مارس الجاري، إلى فرنسا عام 1976 للدراسة واكتساب الخبرة، حتى أصبح أحد أئمة الإنطباعية التي أخذها عن أستاذه الفنان فايق حسن، إلى جانب كونه أستاذا في الأسلوب الأكاديمي، سواء في التخطيط الأكاديمي المنهجي للشكل، أو في معالجة الألوان وتوزيعها، ففرشاته، كما يرى العديد من النقاد والفنانين قوية متمردة، وحركاتها عفوية، تلقائية، تجسم موضوع اللوحة بمرونة وعذوبة، ومن دون افتعال وكأنها خلقت معه.

لوحاته ذات ألوان متقنة، ورموز، وأشكال هندسية وإنشاء حر، والهاجس المؤرق الذي يسكنه هو البحث عن الهوية، لذا شكلت لوحاته مزجا للحاضر بالماضي ومختبرا للألوان والأشكال من أجساد مهشمة، رؤوس ووجوه إسطورية، وثقوب ورموز من حضارات أكدية وسومرية وبابلية.

يسكنه هاجس البحث عن الهوية
ولد صلاح جياد في البصرة عام 1947، ودرس في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وتخرج عام 1971، ثم عمل في مجلة “مجلتي” وصحيفة “المزمار” للأطفال 7 سنين، وفي مجلة “ألف باء” الأسبوعية وصحيفة الجمهورية وغيرها.

كما أسهم في تأسيس جماعة الأكاديميين التي تتكون من الفنانين كاظم حيدر وفيصل لعيبي ونعمان هادي ووليد شيت، والتحق في باريس إلى مدرسة الفنون الجميلة (بوزار)، وانهى دراسة الدكتوراه في تاريخ الفن، وأقام معارض كثيرة في فرنسا وخارجها، وحاز على عدة جوائز ذهبية.

درس جياد الطبيعة وجسّمها بحرفية لا تضاهى، بكل تفاصيلها الدقيقة وبكل عمق، وبتقنية ترافقها شفافية وحضور لوني وبصري بارع، لذا تعتبر لوحاته أعمالا منهجية متكاملة، دراسية وتشريحية ترفعه إلى مصاف كبار الفنانين في العالم، فهو تشكيلي لا يخطئ النظر إلى الحياة ومتطلباتها، مثلما لا يخطئ في تصويرها، وضبط منظورها وتفاصيلها الدقيقة، مؤطرا إياها بأسلوب منهجي مدرب وعميق، كنصوص فنية متناهية الدقة.

وكان للأطفال نصيب من إبداعه حيث أنجز أعمال تخرّج تاريخية رفدت مطبوعات الأطفال بثقافة بصرية جديدة غير مألوفة سابقا، حيث اشتهر بمسلسلاته الجميلة منها “رحلة ماجلان”، و”أحمد بن ماجد”، وغيرها من القصص التاريخية.

يشير الناقد والفنان التشكيلي العراقي خالد خضير الصالحي إلى أن تجربة جياد داخل العراق خضعت إلى قوى ضاغطة كانت أهمها محنة الجيل السبعيني من التشكيليين والمثقفين العراقيين الذين تزامنت تلمذتهم، وصعودهم، مع تصاعد الخطابات الأيديولوجية التي كانت تسعى إلى توظيف الفن، والثقافة العراقية، لوجهة نظرها، ومصالحها، فقولبت جيلا بكامله وقع الكثير منهم تحت طائلة (شيزوفرينيا) ثقافية مماثلة لما وقع فيه جيل الستينات قبلهم.

الناقد خالد خضير

ويضيف الصالحي أن جياد تربى على مرجعية فكرية تركز على “البطل الإيجابي” وتُعلي من شأنه، حيث كانت الترسيمة القياسية لذلك البطل السمة الأكثر ملموسية للرسم الواقعي بمفاهيمه التي كانت تطرح في الأدبيات العراقية في السبعينات، والتي سادت، بفعل بعض أعمال بيكاسو، وخاصة “الجورنيكا” التي غدت “علامة” تشبّع بها جيل السبعينات، بوصفها مرتكزات قبلية لكل عمل فني.

صاحب فرشاة متمردة
وهو اتجاه أشاعه وحافظ عليه رسامون خمسينيون أهمهم محمود صبري في أعماله عن الثورات والمسيرات، والذي تحول أخيرا إلى تجريدية هندسية موندريانية (نسبة الى الرسام موندريان) أسماها واقعية الكم، وألّف عنها كتابا بالعنوان ذاته، والستيني محمد مهر الدين الذي حتى حينما تحول إلى التجريد كان موضوع ما سمي بـ”البطل الإيجابي” يطل، على نحو ما، في أعماله، فكانت خطابات ذلك البطل تظهر بشكل كتابات تعلن سخطها على الإمبريالية، والاستعمار، وأميركا، وكل أشكال استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، كما كان ذلك البطل مهيمنا في تجربة ستينية شهيرة هي تجربة كاظم حيدر في ملحمة الشهيد، والتي كانت الحدود التي ينطلق منها ويعود اليها جيل واسع من الرسامين العراقيين، فهيمن ذلك البطل على تجربة صلاح جياد باعتباره موضوعا أثيرا ولازمة تقريبا في بناء اللوحة.

فالجسد أو بعض من أجزائه يشكل القاسم المشترك لأهم مفرداته التشكيلية، والتي يصعب تجاوزها، حتى لو اشتغل على المشهد الطبيعي، وهكذا كانت لوحته تعبيرية في شكلها، وفي موضوعها، وغالبا ما يشكلها حشد من “الأبطال” الساخطين الذين يخضعهم الرسام لمختلف ضروب الاشتغال التقني المتمثل بشتى الفورانات اللونية حتى ينقل للمتلقي إحساسا بحالة اللوحة، من خلال رداء لوني تقني عال، ولكن بقيت روح اللون الانطباعي تطل برأسها من خلال تلك الأجواء.

وفي سياق دراسة مرجعيات جياد التاريخية في أعماله، يذهب الفنان والناقد علي النجار إلى أن أثر الجسد السومري كان حاضرا من خلال استدعائه كشاهد لعنف أزلي (العين بؤرة العالم والقسمات خارطة الأرض الأولى)، وما تبقى من الجسد نثارا عصي على الأدراك أو الأحاطة العمومية بمجمل النتاج التشكيلي العراقي المعاصر. ولم يبتعد نزوع تلك التجارب إلى دمج الماضي بالحاضر عن نزعة ما بعد الحداثة، أو الراهن من الأعمال التشكيلة الهادفة إلى كسر الحدود، أو الفواصل الزمكانية، أو تفتيت قداسة الصورة وصولا إلى مناطقها المغفلة.

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961