معن البياري*
استنفرت الدولة الأردنية، دبلوماسياً وإعلامياً، لتطويق تداعيات هتاف أردنيين، ناقصي الأخلاق، بفدائهم صدّام حسين بالروح والدم (هل يُفتدى المتوفّى؟) في استاد عمّان، مع بدء مباراةٍ في كرة القدم بين المنتخبيْن، الأردني والكويتي. اتصل الملك عبدالله الثاني بالشيخ صباح الأحمد، ووزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، بنظيره خالد الحمد الصباح، لتأكيد استنكار ذلك السلوك المقيت، وإبداء الحرص على أحسن العلاقات رسمياً وشعبياً مع دولة الكويت، وهو الموقف الذي عبّر عنه رئيس الحكومة، عمر الرزاز، في تغريدةٍ، جاءت على خروج الهتاف عن قيم الأردنيين. وشارك مجلسا النواب والأعيان واتحاد كرة القدم في رفض ما جرى، وذلك كله مع هبّة إعلاميةٍ، وعلى منصّات التواصل الاجتماعي، نشط فيها أردنيون كثيرون، جهروا بتقديرهم العالي الكويت وشعبها وقيادتها. وقد دلّ هذا كله على إدراك جسامة الفعلة الشنيعة، وما قد تُحدثه من آثارٍ شديدة السلبية، في غير صعيدٍ ومستوى، على العلاقات بين الشعبين، الأردني والكويتي. وليس خافياً أن مشاعر وحساسياتٍ غير طيبةٍ طبعت تواصلهما أكثر من عقد، قبل أن ينجحا في تجاوزها، بل وفي تعزيز أعمق مشاعر الود والاحترام الحَريّةِ بأن يدوم مثلُها بين كل الشعوب العربية. ومعلومٌ أن رواسب كارثة الاستقطاب وسوء الفهم والتوتر بعيْد جريمة صدّام حسين اجتياح الكويت صيف العام 1990 كانت السبب في ذلك الطور العابر من صلات الأردنيين والكويتيين.
لم يكن كلاماً إنشائياً ما أجمع عليه الملك والحكومة والبرلمان والإعلام وأهل الرياضة في الأردن، أن السلوك الذي أراد منه أولئك الهاتفون استفزاز الفريق الكويتي، تشجيعاً للفريق الأردني (!)، لا يعبّر عن مزاج البلد وأهله. ببساطةٍ، لأن السوقيّة إنما هي غالبةٌ فحسب لدى كثيرين من جمهور المدرّجات في ملاعب مباريات كرة القدم في الأردن، ممن لم يتعلّموا، لا في منازلهم ولا في مدارسهم في الابتدائية والإعدادية، ولا في أوساطهم الحاراتية وقراباتهم العائلية، التعبير الفَرِح الراقي عن محبّة نادٍ أو فريق كروي، ولا التحلّي بثقافة النأي عن التوتير وقلة الحياء. ولا يتزيّد صاحب هذه الكلمات في هجاء هؤلاء هنا، فمن يأخذُهم تعصّبهم ضد نادٍ محسوبٍ على الأردنيين من أصول فلسطينية إلى الهتاف لنتنياهو، وإلى مناداة الملك إلى تطليق زوجته الملكة ذات الأرومة الفلسطينية، لا يصير مستبعداً أن نعثر بين هؤلاء، وبين أمثالهم من ذوي المنابت الفلسطينية، على من يفتدون صدّام حسين (استكشف ضابط أميركي أقرع فمَه لمّا قُبض عليه). ويحتاج واحدُنا إلى أرطالٍ من الفراسَة، ليُقنع نفسَه بأن أولئك الفتية يعرفون حقاً بواعث حبّهم هذا صدام.
وأخذاً بمقدارٍ متاحٍ من موضوعيةٍ لازمة، يحسُن أن يبقى في البال أن استنكارَنا الواجب الفعلة الشائنة لا يعود إلى ولع من اقترفها بطاغيةٍ مسؤولٍ عن جزءٍ ليس هيّناً من نكبة العراق الراهنة، وعن بؤس الحال العربي المعلوم، وإنما إلى استخدامهم اسمَه لاستفزاز الكويتيين، في مسلكٍ جارح. ومن الحماقة أن يُشغل معلقٌ نفسَه بما إذا كان المتحدَّث عنهم يعرفون ما كانه صدّام ويحبّونه أم لا، فالأجدى بالاكتراث أنه ما زالت لهذا الرجل شعبيةٌ عريضةٌ بين الأردنيين، قناعةً منهم بأن الأميركان ما حاربوه إلا لأنه كان قائداً وطنياً، ذا هوى عروبي وفلسطيني، وضربَ إسرائيل بالصواريخ، من دون أدنى التفاتٍ إلى ما أعملَه استبدادُه بالعراقيين. ولا يتبنّى هذه القناعة أردنيون محدودو التعليم والثقافة فقط، بل ونخبٌ واسعةٌ أيضاً. وليس أمراً منقوص الدلالة أن مجمع النقابات المهنية في إربد استضاف، قبل شهور، ندوة لإحياء ذكرى “استشهاد” صدّام، تحدّث فيها النقيب الأسبق، المعارض البارز، ليث شبيلات، قبل محاولة مجهولين معلومين الاعتداء عليه، وإيقافه عن الكلام، وهو الذي جاء تعقيبُه على واقعة الهتاف بالغ الغرابة: يعتذر لشعب الكويت، ويقول أحسن الكلام فيهم، وفي رئيس برلمانهم، مرزوق الغانم، ويؤكّد لهم، في الوقت نفسه، إنه “حبيبٌ للرئيس الشهيد صدّام حسين”، ويستنكر استخدام أولئك الهاتفين اسم هذا “القائد العربي”.
سماحةٌ طيبةٌ من أهلنا الكويتيين أن يقبلوا اعتذارات الأردنيين وأسفهم العظيم مما جرى. ورائقٌ جداً منهم لو يتفهموا أن “لعنة” صدّام حسين عصيةٌ على الزوال من مدارك أردنيين كثيرين، ومناقبية عالية فيهم أن لا ينظروا إلى الأردن وناسِه بعينٍ لا ترى غير هذه اللعنة.
* كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في “العربي الجديد