فؤاد الصباغ *
تشهد الساحة الإقتصادية السعودية جدلا حادا و نقاشا متواصلا حول مدي فاعلية و جدوي الإكتتاب العام لسندات شركة أرامكو السعودية الحكومية في الأسواق المالية العالمية. إذ تعد في هذا الصدد الثروات الطبيعية المصدر الرئيسي للثروة الوطنية و لا يجوز بأي حال من الأحوال التفريط فيها لصالح المستثمرين الأجانب أو خصخصتها بالكامل لتتحكم فيها جهات إستثمارية أجنبية. إن قطاع الطاقة و بالأساس المحروقات تمثل للدول النفطية الشريان الحيوي لإقتصادها الوطني و المورد المالي الهام لمداخيل ميزانيتها العمومية. فالمملكة العربية السعودية تعتبر من أكبر الدول العالمية المنتجة للنفط و الغاز و المساهم الرئيسي في منظمة الأوبك كدولة عضو ذات مردودية إنتاجية عالية تقدر بحوالي إنتاج مليون برميل نفط يوميا. لكن في المقابل تسعي الحكومة الحالية بطرح أسهم شركة أرامكو الحكومية في الأسواق المالية العالمية و خاصة منها ببورصة وول ستريت و ذلك قصد تقليص عجزها المالي المتراكم منذ سنين طويلة في ميزانيتها العمومية. أيضا تسعي بوضع الخطي الأساسية الأولي نحو تحرير الأسواق السعودية الداخلية و إنفتاحها بالكامل علي الإقتصاد العالمي و ذلك في إطار الرؤية الإقتصادية الإستشرافية لسنة 2030.
تراكم العجز المالي بالميزانية
إن تراكم العجز المالي المتواصل و المتصاعد في الميزانية السعودية يشكل نذير خطر للإنجراف نحو الهاوية الإقتصادية و إنحراف مسار المجهودات الإصلاحية لمختلف القطاعات الحيوية المنتجة. إذ بلغ العجز المالي للمملكة العربية السعودية لسنة 2018 ب 35 مليار دولار و هذا يعد رقما سلبيا مهولا في إقتصاد صاعد يراهن فقط علي المنتجات البترولية. كما أن ميزانيتها أصبحت تعاني مؤخرا من عبء متفاقم نظرا لتزايد كلفة تمويل الحروب بمنطقة الشرق الأوسط خاصة منها الحرب اليمنية و السورية. أما صفقات شراء الأسلحة التي تعد في مجملها أموال مبالغ فيها بحيث إستنزفت كمية كبيرة من الأموال العمومية و ذلك بتعلة التصدي لتنامي الخطر الإيراني في المنطقة. بالنتيجة تسببت هذه العوامل في تراكم عجز الميزانية و تضاعف المديونية بحيث إلتجأت في هذا الصدد المملكة العربية السعودية لإقتراض مبلغ يقدر ب 7.5 مليار دولار من الجهات المانحة و المؤسسات المالية العالمية و ذلك قصد تغطية عجزها في الموازنة السنوية العامة. أما عمليات الترقيع الإضافية لهذا الإستنزاف المالي الضخم تمثل في إكتتاب سندات حكومية من الخزينة العامة في الأسواق المالية العالمية تقدر بمبلغ 1 مليار دولار مع التوجه نحو سياسة الخصخصة عبر التفريط في بعض الشركات الحكومية الضخمة و خاصة منها شركة أرامكو النفطية العملاقة.
إيجابيات و سلبيات الإكتتاب العام لشركة أرامكو
إن التحرر المالي و التجاري و سياسة الإندماج في العولمة الإقتصادية و المالية لها تأثيرات إيجابية و سلبية مباشرة علي الإقتصاديات الوطنية لبعض الدول ذات الإقتصاد الصاعد أو الهش و خاصة منها الدول الإستهلاكية. إذ بإعتبار أن الإقتصاد السعودي يصنف كإقتصاد صاعد و واعد فعمليات الخصخصة تمثل له مكسب هام يساهم بالنتيجة في رفع نسق التنافسية في الأسواق العالمية و يعود بالنتيجة علي الخزينة العامة بمبالغ مالية ضخمة تقلص من نسبة العجز المالي المتراكم و المتواصل. فمن إيجابيات طرح أسهم شركة أرامكو للإكتتاب و التي تعتبر القلب النابض للإقتصاد السعودي بحيث تشغل قرابة 65 ألف عامل و تساهم بنسبة 87% من مداخيل الميزانية متأتية خاصة من بيع المحروقات نذكر منها الرفع في نسق الصادرات و الإنتاجية مع إحتمال إنتعاش الأسواق المحلية و إرتفاع الأسعار البترولية مع جلب أكبر عدد ممكن من المستثمرين و المضاربين في أسهم الشركة ببورصة وول ستريت. ففي المقابل ستتخلي الإدارة المركزية الحكومية عن جزء كبير من عبء تكلفة التسيير الإداري و الإنتاجي ليتحمل بالنتيجة جزء من القطاع الخاص في المساهمة المباشرة لإدارة التنفيذ و التسيير و متابعة الإنتاجية مع تسديد عوائد مالية مباشرة للخزينة العامة و ذلك بأقل التكاليف. أما سلبيات الإكتتاب في مجال الطاقة يشكل خطرا مستقبليا نظرا لأنه سيستنزف الموارد المالية الحكومية و يقوض سيادة إتخاذ القرار السيادي في سوق رؤوس الأموال التي تتحكم فيها فقط الأسعار المطروحة من قبل المستثمرين, مما تشكل بالنتيجة مصدر قلق تساهم في إنخفاض أسعار الشراء و إرتفاع أسعار البيع بالأسواق المالية بحيث يكون المضارب هو المستفيد الأول من تداول هذه الأسهم في البورصة. أيضا فقدان سيادة القرار بالتحكم في الإنتاجية بحيث سيتضاعف الإنتاج اليومي إلي مستوي 2 مليون برميل من النفط في اليوم مما سيؤثر سلبا علي مستقبل المخزون العام للمحروقات. عموما تعتبر رأسملة جزء من شركة أرامكو مفيد للمالية العمومية السعودية التي تبحث عن موارد مالية أجنبية إضافية نظرا لإرهاق ميزان المدفوعات بمصاريف ضخمة في مجال التسلح و الحروب أو لتسديد ديون السعودية المتراكمة لدي الخزينة العامة الأمريكية. كذلك تعتبر سندات شركة أرامكو السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية و الصين و كوريا الجنوبية في مجملها محفزا ماليا للمبادرة بطرح أسهم هذه الشركة للتداول ببورصة وول ستريت الأمريكية.
الرؤية الإستشرافية لسنة 2030
تقدر ميزانية شركة أرامكو بحوالي 2 تريليون دولار و هذا يعتبر رأس مال مهول جدا بحيث تشكل هذه الشركة النفطية ثقلا كبيرا في الإقتصاد السعودي و الجزء الكبير من صادراته النفطية و التي تبلغ نسبة 90% من مجمل الصادرات. كما تساهم مجموعة فروع الشركة من مصفاة لتكرير النفط الخام داخل المملكة أو خارجها في دعم الإنتاجية و رفع المردودية علي الصعيد العالمي. إذا تتمثل الرؤية الإستشرافية لسنة 2030 في تعزيز مجال تحرير الأسواق المحلية السعودية و تحرير الأسعار مع تفعيل الإندماج الأوسع في منظومة الإقتصاد العالمي علي جميع الأصعدة و خاصة منها المالية و التجارية. إن هذا النهج التحرري الرأسمالي عبر طرح أسهم أغلب الشركات الحكومية السعودية في سوق رؤوس الأموال العالمية يفتح الباب أمام الإقتصاد السعودي لدعم مجال إندماجه في فضاءه الإقليمي و الدولي الذي يراهن علي خصخصة جميع المرافق الحيوية للإقتصاد و علي التحرر المالي و التجاري. أما سياسة مكافحة الفساد و إرساء الحوكمة الرشيدة فهي ستنطلق بالأساس من بوابة التحرر في تسيير مجلس الإدارة الإقتصادية و التحول من المركزية إلي اللامركزية في إتخاذ القرارات السيادية المصيرية بشأن الشؤون الإقتصادية و المالية و ذلك بتفويضها الكامل للمستثمرين و للمضاربين. إنتهجت المملكة العربية السعودية مؤخرا سياسة الإنفتاح و ذلك من خلال تحرير المرأة عبر السماح لها بقيادة السيارة و إحداث هيئة للترفيه تدير إقامة الحفلات الغنائية قصد جلب السياح. أما أحدثها الآن هو السير بثبات علي طريق التحرر المالي و الإندماج في الأسواق الإقتصادية و التجارية الحرة و ذلك عبر تقليص نفوذ إستحواذها لقطاع الطاقة و الإنطلاق نحو خصخصة بعض الشركات الحكومية علي غرار شركة أرامكو و ذلك من أجل تقليص العجز المالي المتراكم. بالإضافة لذلك تراهن النظرة الإستشرافية للمملكة العربية السعودية في الفترة القادمة علي تعزيز مكانة الإقتصاد الرقمي في الإقتصاد الوطني قصد الحد من الفجوة الرقمية و تطوير مجال التحكم في تكنولوجيات المعلومات و الإتصال الحديثة. أيضا الرهان علي الإقتصاد الأخضر الذي يعتبر العمود الفقري للتنمية الإقتصادية من خلال تنويع مصادر المداخيل للميزانية العامة مع زيادة نسق القدرة التنافسية للشركات المحلية التي تساهم بدورها إيجابيا في رفع الإنتاجية و المردودية و بالتالي تحقيق الإستقرار و الإزدهار الإقتصادي عبر تحقيق نسب مرتفعة من النمو الإقتصادي. فهذا الإكتتاب لسندات شركة أرامكو في الأسواق المالية و لو هو محدود بنسبة 5% فهو يمثل الخطوة الأولي علي درب الإصلاح الهيكلي الموعود الذي سيحقق المزيد من الشفافية و المصداقية في المعاملات المالية السعودية علي الصعيد العالمي.
عموما يعتبر طرح أسهم شركة أرامكو السعودية في الأسواق المالية العالمية في مجمله محدودا حاليا و هو يمثل جزءا من الحل للمشكلة الإقتصادية و المالية المتراكمة و التي تسببت فيها الزيادة المهولة في المصاريف العمومية, إما لتمويل الحروب خاصة باليمن و سوريا أو لشراء كميات ضخمة من الأسحلة بأسعار مرتفعة. أيضا من خلال المساهمة في تمويل إعادة إعمار الدمار بالدول المتضررة من تلك الحروب بمنطقة الشرق الأوسط خاصة منها في العراق و سوريا. فهذا التحرر المالي لشركة أرامكو و إندماجها في سوق رؤوس الأموال العالمية سيضاعف من نسبة الفوائد المالية و سيعزز من ثقة المستثمرين الأجانب في الأسواق المحلية السعودية. بالتالي ستعود الفائدة علي الخزينة العامة للمملكة العربية السعودية التي ستتجه نحو تنويع منتجاتها الإقتصادية مثل الصناعات البتروكميائية أو الإستهلاكية. كما ستقلص في المقابل من تركيزها علي الإنتاج النفطي و تسمح لنفسها بإيجاد بدائل أخري للموارد المالية و التي هي الآن في أغلبها متأتية فقط من بيع المحروقات في الأسواق العالمية.
- باحث وصحفي من تونس