جيفارا زيا*
خلال المعارك التي استمرت تسعة أشهر والتي أدت إلى تحرير محافظة نينوى ومركزها مدينة الموصل من قبضة تنظيم “داعش” في عام 2017، تعرضت البنية التحتية للمدينة لدمار كبير.
وعلى الرغم من أن الحياة عادت إلى طبيعتها في الجزء الشرقي من المدينة، فإن مشاهد الدمار لا تزال سائدة في غربها، حيث فقد سكان تلك المناطق الأمل في تحقيق الرخاء الاقتصادي أو حتى ضمان سلامتهم البدنية. والى جانب الوعود التي قدّمها المجتمع الدولي والحكومة الاتحادية العراقية بدعم عملية إعادة الإعمار، هناك ضرورة ملحة لتعزيز ودعم تلك القطاعات الحيوية محليًا حتى تتمكن المدينة من البقاء على قيد الحياة. فالدمار الذي شهدته المدينة لم يقتصر فقط على بنيتها التحتية أو المعمارية، بل امتد خطره ليشمل تدمير الفكر الذي سيبقيها على وضعها ولا ترى النهضة الفعلية أو الحقيقية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أدى انهيار البنية التحتية في مدينة الموصل إلى عجز السلطات عن توفير الخدمات الأساسية بسبب انعدام الخطط المتكاملة، حيث أشار تقرير المجلس النرويجي للاجئين في عام 2018 إلى “انه لا يزال هناك أكثر من 380 ألف شخص من سكان المدينة بلا منزل “. وأضاف التقرير أن ” الجانب الغربي لمدينة الموصل مدمر بالكامل، ونحو 54 ألف منزل في الموصل والمناطق المحيطة بها مدمّر”. ولا يزال الكثير من الأهالي لم يعودوا لمنازلهم بسبب الدمار، ويعاني الذين عادوا من صعوبة الحصول على مياه الشرب، والخدمات الصحية. كما ارتفع معدل البطالة مقارنة بارتفاع الأسعار، نتيجة التعريفات الجمركية التي فرضتها الحكومة المركزية على البضائع التي تدخل المدينة من إقليم كوردستان. ولا تزال أربعة جسور من أصل خمسة تربط جانبي المدينة على نهر دجلة، خارج الخدمة.
ومن المؤكد أن سكان الموصل يدركون تماما أوجه القصور الرئيسية التي تشوب عملية إعادة الأعمار، وغير راضين عن وتيرتها البطيئة حيث يصفونها بأنها “تسير على ظهر سلحفاة”. ولسوء الحظ، أدى الروتين وغياب القدرة على التصرف بشكل عاجل للاستفادة من الفرص المتاحة إلى تأخير المليارات التي أعلنت عن تقديمها الدول الأجنبية المشاركة في مؤتمر الكويت الدولي لإعمار العراق.
وعلاوة على ذلك، أدت عدم كفاءة بغداد في التعامل مع الجهات الخارجية المانحة إلى تعطيل الأموال التي تعهدت بها الحكومات الأجنبية. فمثلا، كان هناك تلكؤ في صرف المنحة الفرنسية لإعادة إعمار جامعة الموصل والمنحة الإماراتية لإعادة بناء جامع النوري ومنارة الحدباء وغيرها من مشاريع حماية المواقع الإثارية والدينية. أضف إلى ذلك، أدت ظاهرة تفشى الفساد في العراق إلى هروب الاستثمارات الدولية. وعلى الرغم من موافقة الرئيس برهم صالح في الرابع من شباط/ فبراير الجاري على تخصيص ما يقارب 100 مليون دولار من الموازنة الاتحادية العراقية لعام 2019 لمحافظة نينوى، إلا أن المبلغ المخصص لا يكفي لإعمار قضاء منكوب في المحافظة.
ومع ذلك، ليست المصاعب الاقتصادية فقط وحدها هي العقبة الوحيدة التي يمكن أن تقف حائلا أمام عملية إحياء الموصل، فخلال الشهور القليلة الماضية، أعلنت القوات الأمنية اعتقال العشرات من تنظيم “داعش” في مدينة الموصل، كما أعلنت أن خلايا التنظيم ما زالت فاعلة في المدينة، وان عمليات البحث والتعقب التي تقوم بها بين الحين والآخر أدت في أغلبها إلى اعتقالات في صفوف التنظيم. كما لقى خطاب مقتدى الصدر صدي واسع عندما أعلن عن وجود خلايا إرهابية نائمة تعمل في المناطق المحررة، وهو ما قد يلعب دورا في زعزعة الأمن في محافظة نينوى خاصة أن تنظيم” داعش” ما زال يراهن على استنهاضه مرة أخرى وتوعده بالقدوم والسيطرة على المحافظة. وفى هذا الصدد، شهدت محافظة نينوى سلسلة من الخروقات الأمنية التي تمثلت بتفجيرات بسيارات مفخخة وعبوات ناسفة، واستهداف لشخصيات نافذة في المدينة، وهو ما أثار التساؤلات عن حقيقة الأوضاع الأمنية في المدينة.
ومما زاد الطين بلة من الناحية الأمنية هو أن الحشد الشعبي ما زال هو القوة الأكثر نفوذا في المدينة والذي ينظر خطئاً إلى أبناءها نظرة واحدة واعتبارهم متهمين باستقبال واحتضان “داعش”، مما يجعلهم في تخوف مستمر من احتمال تعرضهم للاعتقال. ويتدخل الحشد الشعبي تدخل كبير في عمليات الاستثمار في المدينة ومنها شبكات اتصال الأنترنت وتوزيع الأراضي والأسواق التجارية. وبالمقابل نجد أن الحشد المحلي أو الحشد العشائري الذي تشكل في الموصل وبدعم أمريكي وقاتل “داعش” ومسك الأرض أصبح يعاني الضعف ونقص الإمدادات، فقد بقي منه نصف عدده أي حوالي سبعة الأف عنصر من دون تعويض النقص وترك بوضع هش من حيث التنظيم والإعداد والتسليح بدلا من أن يٌقوى ويمسك الملف الأمني للمدينة. ومن ثم، هناك ضرورة لتوجيه المزيد من الدعم نحو قوات الحشد المحلي نظرا لأنها تستمد قوتها من السكان المحليين، وبالتالي ستكون أكثر انسجاما مع مصالح المدنيين في الموصل.
وفي ضوء عدم الكفاءة التي تعاني منها الإدارة في بغداد، والفساد المستشري على المستوى الاتحادي، والآراء الخاطئة التي يتبناها الحشد الشعبي حول سكان الموصل، ينبغي السماح لسكان الموصل بمزيد من المشاركة المحلية في عملية إعادة الإعمار. لذلك، لن يتحقق الأمن في مدينة الموصل حتى يتم إعطاء السكان والشرطة وقوات الحشد المحلي – التي لعبت دورًا حاسمًا في هزيمة وطرد “داعش” – الفرصة لقيادة عملية إعادة إعمار مدينتهم، مع تدخل محدود من القوات العراقية الاتحادية. علاوة على ذلك، وحتى تنجح عملية إعادة الإعمار، يجب على السلطات المحلية تخصيص الموارد اللازمة حتى تتمكن من إعادة بناء المدينة. ولوضع تلك السلطات موضع المساءلة، يجب إجراء انتخابات دورية لاختيار مجالس المحافظة والأقضية والنواحي.
أظهر سكان الموصل خلال الحملة العسكرية الصعبة ضد تنظيم ” داعش”، أن لديهم العزيمة الضرورية والإصرار على إعادة إحياء مدينتهم من جديد. ومع ذلك، فالأمر في النهاية متروك للحكومة العراقية الاتحادية والمجتمع الدولي للتأكد من حصول سكان الموصل على الوسائل اللازمة للقيام بذلك.
*جيفارا زيا هو ناشط سياسي من مدينة الموصل، وأحد قيادات التنظيمات السرية للحركة الديمقراطية الأشورية التي كانت تعمل تحت الأرض خلال فترة حكم صدام حسين. كما تم انتخابه كعضو في مجلس محافظة نينوى عن المكون الأشوري بعد سقوط صدام حسين، حيث لعب دوراً أساسياً في تشكيل وتعبئة الحشد المحلي ودعم تواصله مع الجانب العراقي والأمريكي. كما له عدد من الكتابات التي تركز على الأقليات الوطنية ومستقبلها في العراق.