كتب / فؤاد الصباغ *
إن السياسات الإقتصادية التي إنتهجها حكم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لم تحقق التنمية الإقتصادية المنتظرة و لم تحسن الأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية علي مدي تلك الفترة من الحكم التي كانت في مجلمها تعيسة. فكانت سياسات التهميش و المحسوبية مع تطبيق الدكتاتورية هي السائدة علي جميع الأصعدة بحيث ساهمت في زرع الحقد و النقمة لدي أغلب الفئات الشعبية الفنزويلية. أما ذلك الإقتصاد الإشتراكي الريعي المنتهج طيلة تلك السنوات كان في جوهره يعتمد فقط علي عائدات بيع النفط و تراكم الذهب في البنك المركزي. في المقابل كانت توزع بعض المنح المالية علي بعض الأشخاص الموالية للنظام الحاكم مع توفير سكن مجاني أو الصحة مجانية. فقد تم الإعتماد علي الإقتصاد المنغلق علي نفسه بحيث همش الإستثمار و طردت أغلب رؤوس الأموال الأجنبية مع التشبث برفع شعارات القومية و الثورية. بالتالي كان الوعد و الوعيد مع التهديد و التصعيد هو السائد خاصة ضد السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية و ضد مناهجها الإقتصادية كتطبيق الرأسمالية و تحرير الأسواق المحلية و تحرير الأسعار و غيرها من مجالات الإنفتاح علي الإقتصاد العالمي. أما التحالف لدولة فنزويلا كان مندمجا في إطار المبادلات التجارية للأسلحة مع روسيا الإتحادية و المواد الإستهلاكية مع الصين الشعبية. بالنتيجة إنفجرت تلك الفقاعة المغلفة بكبت تلك السنين الطوال لشعب ذاق الأمرين من فقر و قمع فضاقت به ظروف العيش ليخرج صارخا محتجا إلي شوارع كراكاس ليقول “إرحل يا مادورو”. إن تلك البراكين الهائجة و الجحافل الشعبية من المحتجين الفنزوليين لم تخمد إلي حد الآن و مازالت متواصلة حتي تتحقق أهدافها بالكامل. لكن تبدو الأمور في الأفق سائرة نحو طريق أزمة دبلوماسية نتيجة لسياسات حكومة مادورو الرافضة بشكل قاطع للإستقالة أو الإعتراف بخوان غويدو كرئيس بالنيابة بعد هذا الإستفتاء الشعبي عبر هؤلاء المحتجين المتضررين من السياسات الإقتصادية الفاشلة و الدكتاتورية القمعية التي جثمت علي صدورهم لمدة طويلة من الزمن.
من هوغو تشافيز إلي نيكولاس مادورو
منذ ثورة شيغيڤارا بالقارة اللاتينية إلي الآن لم يتحقق ذلك الوعد الزائف المروج للكفاح من أجل التخلص من الإمبريالية الأمريكية و نفوذ الطبقات الغنية. فتواصلت مسيرات رفع شعارات الثورة في فترة حكم هوغو تشافيز التي كرست لحكومة عسكرية تتلخص في القوة المركزية و القبضة الحديدية لرجل فنزويلا الأوحد. بالنتيجة قتل صوت الحرية و الديمقراطية و رفع سلاح الدكتاتورية القمعية بحيث فقرت البلاد و قتلت العباد المطالبة بتحقيق العدالة الإجتماعية أو لتحسين الظروف المعيشية. كانت سياسات تشافيز الإقتصادية تعتمد علي نهب الثروات الطبيعية و تخصيص عوائدها المالية كلها لخدمة مصالح شخصية
معينة. بالتالي زادت نسبة الفساد المالي و تضاعفت الرشوة داخل المؤسسات الحكومية و زادت فوضي تجارة المخدرات و تهريب البشر. فبالنتيجة كانت فنزويلا مسرحا للجرائم الدولية بحيث خلال فترة وجيزة من الزمن غادرت الملايين من الأشخاص ذلك البلد تذمرا من الوضع السياسي, الإقتصادي و الإجتماعي القائم. ففي فترة حكم تشافيز كانت الأوضاع بمثابة كابوس حقيقي لشعب سلبت منه إرادة الحياة و قمعت فيه الحريات و كممت داخله الأفواه. كذلك لم تتحقق السياسات الإقتصادية التنموية المركزية أو اللامركزية الإشتراكية من أجل تحقيق تلك العدالة الإجتماعية المروج لها أو توزيع الثروات الطبيعية الواعدة بها. أما وصولا إلي فترة حكم نيكولاس مادورو بعد تلك الفترة التعيسة التي كانت بشتي المقاييس كارثية دخلت خلالها فنزويلا مجدادا في نفق مظلم آخر عبر حكم دكتاتوري ثاني جاء ليدهس نفوس الشعب الفنزويلي و ينهب ثروته و يزيد من تدهور أوضاعه الإجتماعية و الإقتصادية. فحكم نيكولاس مادورو لم يحقق التغيير المرجو و لم يكن هو أيضا بعيدا عن تلك الدائرة الدكتاتورية السابقة من القمع و سوء التسيير للشؤون الإقتصادية و العلاقات التجارية و الدولية. فكانت بالنتيجة الإرتفاع الرهيب في الأسعار و التضخم المالي الذي أصبح لا مثيل له عالميا مع التدهور الكلي بين القدرة الشرائية و الأجور الشهرية. كما ساهم الحصار الأمريكي علي ذلك البلد التعيس و لو أنه يصنف من أكبر الدول النفطية في تدهور الأوضاع الإجتماعية لأغلب الطبقات الفقيرة و زادت سوء إدارة الشؤون الداخلية في تعميق الأزمة الأقتصادية التي أدت بالنتيجة إلي إنفجار ذلك البركان الشعبي الثائر.
إحتجاجات شعبية متواصلة
إن الإحتجاجات الشعبية الفنزويلية المتواصلة ضد الطغاة اللذين حكموا ذلك البلد الغني بالموارد الطبيعية و المنهوب من قبل مجموعات صغيرة تمثل في مجملها أزمة إجتماعية عالمية. كما حولت أغلب الطبقات الشعبية إلي فقراء ومتسولين و أصبحت عملة البوليفار مقابل سلة العملات الأجنبية في الحضيض. إن هذه الموجات من الجماهير الزاحفة التي تطالب بإستقالة الرئيس مادورو المصنف كفاسد دولي و مروج للمخدرات و مغتصب دولة بدون إعتراف دولي بالإنتخابات الأخيرة. فعلي الرغم من عدم الإعتراف الدولي بشرعية حكم مادورو و الملاحقات العدلية الدولية لهذا الرئيس المتهم بالعديد من الجرائم الجنائية أو جرائم تبيض و غسل الأموال, إلا أن صوت الممانعة و المماطلة كان الطاغي علي جميع الأحداث. فتلك الإحتجاجات الشعبية كانت تبرهن للعالم كله مدي السخط و التذمر الشعبي نتيجة لمستنقع الفقر المدقع الذي سقطت فيه فنزويلا. بالإضافة إلي ذلك ساهمت سياسات التهميش و المحسوبية في إرتفاع نسبة البطالة و تردئ المستوي العام للمعيشة الذي أصبح يسير من السيئ إلي الأسوأ. بالتالي كانت صرخة هذا الشعب ضد جلاده و مغتصب إرادته تمثل في جوهرها إستفتاء حقيقي علي مدي شرعيته و وثيقة عدم رضاء عام عن سياساته الإقتصادية الفاشلة علي جميع الأصعدة.
بوادر لأزمة دبلوماسية
بدأت مؤخرا ملامح أزمة دبلوماسية تتشكل بين الحكومة الفنزويلية الحالية تحت قيادة مادورو و حكومات الدول العظمي خاصة منها الأمريكية و الأوروبية بحيث رفعت الشرعية الدولية عن حكومة مادورو وذلك من خلال سحب أغلب البعثات الدبلوماسية الدولية. إن الإعتراف الدولي برئيس البرلمان السابق خوان غويدو كرئيس فنزويلا الشرعي أصبح يشكل إهتماما كبيرا علي مدي شرعية تطبيق الأعراف الدبلوماسية و الإتفاقيات الدولية في إطار القانون الدولي العام بين مختلف دول العالم. بالإضافة إلي ذلك يشكل إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أجل خلع الرئيس الفنزويلي بالطرق السلمية أو الإلتجاء إلي القوة العسكرية في مجمله نذير خطرا علي المنطقة برمتها. أما موقف المفوضية الأوروبية من خلال التصريحات الأخيرة لفريديركا موغريني فهو يزيد بدوره من تعقيد الأمور و توتر العلاقات الدولية بحيث و صلت كلها إلي طريق مسدود. فبوادر هذه الأزمة الدبلوماسية ستبقي متواصلة و متصاعدة خاصة بعد رفع الغطاء الدبلوماسي الدولي عن حكومة نيكولاس مادورو بحيث فقدت هذه الأخيرة شرعيتها علي الصعيد الدولي.
إن إحتجاجات الشعب الفنزويلي ضد تلك السياسات الإقتصادية الفاشلة تمثل في مجملها إنعكاسات لتدهور الأوضاع الإجتماعية علي جميع الأصعدة. فنهب الثروات الطبيعية و تكريس مبدأ الفساد المالي داخل الحاشية المقربة لنظام حكم مادورو و التي أصبحت تعيش في ثراء فاحش و رهيب له تأثير مباشر علي الطبقات العمالية الكادحة. أما في المقابل مازالت بعض الطبقات الإجتماعية الأخري تعاني من الفقر المدقع في وطن يسبح علي بركة نفط. إن كراكاس تنتفض اليوم ضد رئيس فقر البلاد إقتصاديا و ماليا و حقر العباد ماديا و معنويا. كما أن تلك الإحتجاجات الشعبية للمتضررين ستبقي متواصلة حتي تحقق أهدافها بالكامل و تطيح برموز الفساد الفنزويلي.
كاتب وباحث أقتصادي من تونس