وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

تحقيقات

لوحات بصراوية بريشة نجدية

قرر أبي (رحمه الله) أن ننتقل في خمسينيات القرن الماضي من الزبير إلى البصرة، فشعرت حينها بتغيير جذري مفاجئ أسلمني إلى حيرة لم يتحملها عقلي الصغير، فقد هالني ارتفاع المباني، وسحرتني شناشيلها، وبهرتني واجهاتها الخشبية المزركشة، وتهت وسط الزحام مندهشاً متسائلاً: من أين جاءت هذه الجموع البشرية الغفيرة؟ كان سوق المغايز، أو ما يسمى (سوق الهنود) أشبه بخلية نحل، ترى الناس فيها يتدافعون بالأكتاف، في مشهد لم نألفه في الزمن، الذي كانت فيه شوارع الزبير الترابية خالية من التجمعات البشرية الهائلة، فالبيوت الطينية هناك لا يزيد ارتفاعها على طابق واحد، وتكاد تكون شبه موحدة من حيث التصميم والمواصفات العامة.

في البصرة، افتقدت ضوء الشمس، وموجات الغبار، واشتقت لبساطة الحياة الفطرية، وهدوئها المريح، فلا ضجيج في مدينة الزبير، ولا سيارات، ولا تسمع نداءات الحمالين وزعيق العتالين الأشداء، وهم يحملون البضائع الثقيلة على ظهورهم، ولا يزعجك دوي الشاحنات المحملة بالبضائع، ولا عربات الحمل المتكدسة في سوق العشار، حيث كنا نسكن في قلب السوق الكبير وسط المحال التجارية المزدانة بالبضائع، في بيوت عالية فسيحة مؤلفة من طابقين، بنوافذ خشبية كبيرة ومظللة.
أحسست بالفارق الجذري الكبير بين بيوتاتنا الطينية البسيطة في ضواحي مدينة الزبير، وبين هذه الواجهات الحضارية، والمكاتب التجارية، والشوارع المكتظة بالناس، فلم نعد نستعمل المراوح (المهافيف) اليدوية، ولا جرادل المياه (السطول)، فقد حلت محلها الحنفيات المتدفقة بمياهها الرقراقة بلا انقطاع، والمراوح الكهربائية بأجنحتها المحلقة في سقوف الغرف. في الليل تشع أنوار المصابيح البلورية، وتفوح روائح البضائع من المخازن المتخمة بالمواد التجارية المستوردة، حيث تختلط رائحة الليمون العماني برائحة الشاي السيلاني، والقهوة البرازيلية فتمتزج بعرق المارة، وتتداخل مع نداءات بائع اللبن الرائب، الذي كنا نشتري منه ما نريد، ومن العجب العجاب انه كان يترك لنا الأواني كي يستعيدها في اليوم التالي من دون أن يخشى ضياعها أو سرقتها، فالبصرة مدينة الأمن والأمان في ذلك الزمان.
في الصباح، أيام العطلة الصيفية، كنا نتسكع في السوق الكبير، نشاهد البضائع بأشكالها وأنواعها، فالدكاكين ممتلئة بما لذ وطاب، نقف أمام دكان الحاج (ذنون المصلاوي)، الرجل الأصيل بوجهه الباسم، وجسمه الممتلئ، وحزامه المشدود دوما على بطنه، عيوننا ترمق بضاعته بشغف ظاهر، فيبتسم وينادينا ليقدم لنا قطعة نعناع يسمونها) البرميت)، لا ادري سبب التسمية، كانت البساطة سمة من سمات البصريين التي لا تعرف التكلف، فالكل يبتسم حتى بائع الخضار والفاكهة.
كنت أتطلع إلى واجهات المحال التجارية متفقدا معروضاتها المتنوعة، حتى أصل إلى بائع شربت الزبيب المكتظ بالزبائن، وحينما يحالفني الحظ بامتلاك ما يكفي من النقود، أهرع لشراء كأسا عذبة منه، فارتشفها على مهل، بلذة غامره حتى الثمالة. .
اعتدت الجلوس على الرصيف القريب من بائع الشربت أمام محل (أديب خلف) بائع اسطوانات الغناء، استمع إلى حضيري ابو عزيز، وصديفة الملاية، والقبنجي، وعبد الوهاب، وهو يصدح بصوته الرخيم (يا وابور قلي رايح على فين، يا وابور قلي جاي منين).
كنت أحب التجوال متفقدا الأسواق والحارات، حتى الفت الضجيج، واعتدت على رؤية الآلاف في الأسواق كأسراب النحل، فتقودني أقدامي إلى جسر العشار، اعتدت النظر هناك إلى ذلك المتسول الأعمى، الذي كان يقف وسط الجسر مع ابنته الشابة بجسده الممتلئ وسدارته المعهودة، كان هو وساعة (سورين) معلما ثابتا من معالم جسر العشار.
نهر العشار، وما أدراك ما نهر العشار، لطالما سحرني هذا النهر، وأرغمني على الوقوف طويلا أمام انسياب مياهه العذبة، ورؤية الأطفال يقذفون بأنفسهم ضاحكين، فكنت أغبطهم لأني لم أكن أجيد السباحة.
كانت لي ذكريات وذكريات في هذا النهر المتفرع من شط العرب، والذي يمتلئ بمياه المد ليصل إلى البصرة القديمة، يجذبني أحياناً منظر الأسماك وهي تحوم حول قطعة خبز طافية تنافسها عليها طيور النورس المشاكسة، فكنت احتفظ في جيبي ببقايا الخبز لإطعامها، كان في نظري أجمل أنهار الدنيا، لكنه صار اليوم مستودعا للنفايات، ومكباً القاذورات.
كانت شريعة البهرة تحتضن مرسى القوارب العشارية، والبهرة: طائفة هندية من فرق الشيعة، يأتون كل عام بواسطة البواخر، التي  اعتادت الإرساء على رصيف العشار، فيستقرون مؤقتاً في خان كبير يجمعهم كلهم، يسمى خان البهرة في مكان لا يبعد كثيراً عن مطعم بومباي الهندي، الذي كانت رائحة طعامه تجلب الجياع والمتخمين، كنت ارقب جموع الهنود (البهرة) من رجال ونساء وأطفال، تدهشني ملابس نسائهم، التي تشبه ملابس الراهبات في القرون الوسطى، اشاهدهم كيف يستعدون لركوب الباصات الخشبية للذهاب للنجف وكربلاء، في الواقع كنت فضوليا في تقييمهم من حيث ملامحهم ومظهرهم، فلم أجد بينهم لا في الرجال ولا في النساء ملامح جمالية، كانت الفتيات الصغيرات شاحبات الملامح، يفتقدن الجمال الهندي المعروف، وكان الرجال يتعاملون مع النساء بخشونة وصرامة غريبة، أدركت حينها إن البصرة بوابة العراق ونافذته المطلة على العالم.
في شريعة البهرة حيث الأبلام العشارية المنسابة فوق سطح الماء بمظلاتها تحمل المتنزهين، كنت أتمنى أن أقوم بجولة نهرية بقارب يحملني إلى شط العرب، لكنني كنت صغيرا، ففاتحت والدي برغبتي، فطلب من احد الخدم مرافقتي وأعطاه أجور النزهة.
حينما كان البلم العشاري يمخر عباب شط العرب، جلست مأخوذا بجمال مناظر أشجار النخيل والمراكب والبواخر، التي هالني حجمها وهي تشق الماء في طريقها إلى المرفأ، تعرفت لأول مرة على رائحة الشط فعشقتها، وكنت أمد يدي لارتشف جرعات من مياهه الرقراقة متأملا عظمة الخالق، فارتبطت منذ ذلك الوقت بعشق غريب للجداول والنخيل ورائحة شط العرب.
كانت الرحلة أشبه برحلة سندبادية، رويتها لأصدقائي في مدينة الزبير، فتجمعوا حولي وكأنني قادم من جزر الواق واق.
في البصرة وجدت نفسي أتأقلم بسرعة عجيبة، وكأنها انتقالة نوعية لطفل عاش سنواته المبكرة في بيئة قاسية، وتقاليد متشددة، كان من النادر أن نرى النساء كاشفات الوجوه في مدينة الزبير، ومن المستحيل اختلاط الجنسين من الأطفال حتى مع الأقارب، لكن استقراري في هذه المدينة التي لم يهدأ ضجيجها، ومشاهدتي النسوة كاشفات الرؤوس، وأحيانا لا يرتدين العباءات، خصوصا نساء اليهود والمسيحيين، غيرت نظرتي بأن المرأة ليست جسداً متسربلاً بغطاء اسود، فقد كانت جاراتنا يهوديات يحترفن الخياطة، يخرجن للشارع بكامل زينتهن من دون أن يجلبن انتباه العيون الشرهة، فكنت أتعمد الوقوف أمام بيوتهن حينما يخرجن متبرجات، فانتهز الفرصة لتنسم شذى العطور التي تفوح منهن، كنت أتساءل ببراءة الأطفال، هل العطر حكر على هذه النسوة ؟
في الليل أمضيت ليال طويلة أعاني من الأرق، لم أكن قد الفت النوم بعد في سرير تحجب فيه الناموسية عالمي السحري، وتمنعني من مراقبة النجوم، والاستمتاع  بطراوة نسمات الليل تحت ضوء القمر، في المساء تشتد الرطوبة ويضطر السكان لوضع الناموسيات اتقاءً للذعات الناموس، كنت أظل مستيقظا لساعات متأخرة تقطعها دقات ساعة سورين وهي تشير إلى منتصف الليل، فتغرق البصرة في سكون عجيب لا تقطعه إلا أصوات زفرات مكائن الطحين، وصدى غناء البحارة الخليجيين في سفنهم الخشبية، حيث يقضون أمسياتهم بالغناء، لم نعد نسمع نباح الكلاب وعواء الذئاب في بر الزبير، ولم نعد نرقد في أسرتنا المكشوفة بلا تلك الناموسيات.
لقد شكل انتقالنا منعطفا سحريا في حياتنا بالنزوح من حياة القرية لحياة المدينة، لكنني مازلت أتوق لحياة البرية مشدودا البساطة والدعة والقناعة، فلم تكن لدينا تطلعات برفاهية لم نحصل عليها مثلما وجدنها في البصرة، حيث وجدت إن نقود الإنسان تخدمه، فتأكدت من انك إن لم تدفع لن تأخذ ما تريد، فقد كنت في البصرة اشتهي أمورا كثيرة لم أجدها في حياتي في الزبير، كنت أحب تناول الحلويات، وكانت الأسواق عامرة بعروضها المغرية، وحينما احصل على مصروفي اليومي المتواضع وهو (آنه) أي أربعة فلوس تظل الحيرة تتقاذفني بكيفية التصرف بها، هل اشتري شربت الزبيب، أم كأساً من الايسكريم الأزبري، أم اشتري بها سمبوسة هندية حارة من مطعم بومباي ؟، وحينما تجود على والدتي بعشرة فلوس تدسها بيدي سرا لئلا يعرف جدي، الذي كان شعاره الدائم: إن الفلوس تفسد الأطفال، كأني اسمع صوته الودود يتردد في مخيلتي، وهو يصيح بنا: اخشوشنوا فأن الترف يزيل النعم.
كانت العلاقات بين أبناء المحلة علاقات ود ومحبة، فقد كانت تضم مسلمين بشتى مذاهبهم، ومسيحيين ويهود وصابئة، وكان الشجار نادرا ما يتجاوز الكلمات، تدفعني طبيعتي البدوية أحيانا إلى التدخل بمشاجرات لا ناقة لي فيها ولا جمل، خصوصا حينما أشاهد طفلين يتشاجران بعنف، احدهما اكبر سنا وأقوى جسدا من غريمه، الذي لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه، فأتدخل لفض الاشتباك بين المتنازعين، وسط تحريض رفاقي على أن اتركهم وشأنهم ليشاهدوا نتيجة الصراع، فأقف بين الخصمين محاولا إبعادهما، وأحيانا أنال صفعه طائشة من هذا أو ذاك، فأسعى دائما لإيقاف المعركة بحيادية، فإن وجدت تجاوبا وانفض الصراع، وذهب كل منهم في سبيله، أتنفس الصعداء وتنتهي مهمتي، اما إذا أصر احدهم على الاستمرار في الشجار، حينها أكون طرفا فيه، فينال المعتدي ما يستحق من لطمات وركلات، وقد يسفر الشجار عن كر وفر، وتمزيق ملابس وكدمات. لم أكن اشعر بأنها علامات شقاوة، بل إحساس بنصرة الضعيف على القوي، وكان والدي يحذرني من التدخل في أمور لا تخصني، حتى لا أتسبب بإحراج الكبار.
كانت البصرة حينها جنة وارفة الظلال، خير عميم، وعلاقات جيرة ووئام ومحبة، وهكذا سار الأطفال على نهج آبائهم، فلم نتشاجر ولم تتكدر الخواطر، بل كنا فسيفساء عراقيه مصغرة، لا فرق بين هذا وذاك، لا بمذهبه، ولا بعرقه، ولا بانتمائه.
كانت إحدى نساء الجيران تجيد صنع طرشي الخيار، الذي كان يسيل له لعابنا، وكنت افعل المستحيل لشراء بضعة خيارات أتناولها قبل الغداء كفاتحة للشهية، لم يكن في بيع الطرشي ما يعيب، بل كنا نسعى لنظل زبائنهم رغم ضيق ذات اليد، كانت (الصمونة) وطرشي العمبه وجبة لا تُقاوم، خصوصا إذا كان الطرشي من دكان عمر الهندي، الذي تنتشر رائحة بهاراته لمسافة بعيده قد تصل إلى التنومة، فيتسابق الزبائن لشراء المنتجات والبهارات الهندية، التي لا تخلو منها مطابخ البصريين .كانت الأسماك خلال إقامتي بالزبير لا تشكل وجبة غذائية، إذ نادرا ما يتناول أهل نجد الأسماك حتى في موسم الصبور، الذي دخل بيوت النجديين بوقت متأخر.
لقد تناولت ولأول مره وجبة التمن العنبر بالسمن والزبيدي، فأعجبني مذاقها رغم تمسكي بوجبة التمن واللحم، ووجدتها تغييرا رافق التغيير المفاجئ في أسلوب حياتنا، وجدت الكثير من الأطعمة ذات مذاق غير مألوف خصوصا التمن المخلوط بالروبيان بالبهارات والهيل والزعفران، من تلك الأطعمة البحرية التي لم نألفها، فشكلت قفزة نوعيه في تذوق الطعام، فالنجديون لم يألفوا البحر ولا منتجاته.
كان السمك القطان المشوي على الموائد تخفق له القلوب، فحل محل كتل اللحم والخضروات، خصوصا إذا ازدانت الموائد بطرشي (أبو الخصيب(، وكلما استقر بنا المقام كلما اكتشفت عالما جديدا من معالم الطعام، لم تكن المائدة النجدية شحيحة في مكوناتها، لكن للنجديون أطعمة تقليديه جاءوا بها من صحراء نجد، مثل الجريش، وهو قمح مدقوق يطبخ مع الخضروات الطازجة واللحم، إضافة إلى وجبة تتشابه في مكوناتها وهي (المرقوق)، و(المطازيز)، وتصنع من العجين يقطع على شكل دوائر، ويطبخ مع الخضروات وعصير الطماطم واللحم، وتكاد تكون تلك الوجبات مقصورة على أهل نجد إضافة إلى التمن المخلوط بالماش أو العدس، مع عصير الطماطم السميك بالفلفل الحار، والذي يصر أهل الكويت على انه وجبة كويتية، تسمى (الموش)، و(الدقوس)، وهي بالأصل وجبة نجديه أصيله، ويبدو لي إن أهل نجد لم يفكروا بتسجيلها كعلامة تجارية مميزه. كانت هذه انطباعات طفل نجدي لا يتجاوز السابعة تجول بقلبه وروحه وبدنه في مدينة خرافية، كانت تسمى البصرة الفيحاء، وكانت تتباهى بزينتها، وجمالها الأخاذ، وتزدان ببساتينها ومرافئها وجداولها المتدفقة بالخير والعطاء. كانت بندقية الشرق فخنقها دخان البنادق، وجفت سواقيها، وغرقت سفنها في منعطفات شط العرب، لكنها لم ولن تفقد هويتها العربية الأصيلة، ولن تتنازل عن مكانتها التاريخية التي تبوأتها في عصور الازدهار والتألق.
والحديث ذو شجون

المصدر/ جريدة المنارة البصرية

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961