حسن منيمنة
الخطوط العريضة للسردية العراقية، وإن اعتراها بعض المنحى التبربري، واضحة: ربما أن الشعور بالخطر كان توجساً مبالغاً به إلى حد ما، غير أن الواقع كان بلوغ تنظيم الدولة أبواب بغداد في ربيع العام ٢٠١٤، بعد اجتياحه معظم الشمال الشرقي من البلاد، وتهديده العاصمة ووعيده بذبح المواطنين الشيعة من أهلها. ولا شك أن الحكومة العراقية آنذاك، برئاسة نوري المالكي، كانت قد أظهرت انعدام كفاءة، بل أنها كانت مسؤولة بشكل مباشر عن تردي الأوضاع. إلا أن جهودها للحصول على الدعم والمساندة من الأصدقاء والحلفاء لوقف المد الجهادي باءت بالفشل. فحكومة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، والتي كانت قد استعجلت في الانسحاب من العراق قبل سنوات، أجابت إلى الطلب العراقي العاجل بقائمة من الإنجازات المرتقبة ذات الطابع النظري، بما في ذلك ترشيد الحكامة وتحقيق المشاركة، كشروط مسبقة للدعم الكامل. أما أشقاء العراق العرب، فبدا وكأنهم في موقع المتفرج إزاء احتمال سقوط بغداد، والتي كانت حكومتها قد لاقت منهم النقد المتكرر. وحدها إيران مدّت يد العون لجارها في مصيبته، فأوفدت العتاد وألحقته بالأعداد.
وتمكن العراق، ولو بعد حين، من دحر العدوان واستعادة مجمل ما خسره من الأراضي. والدعم الأميركي، وإن جاء متأخراً قليلاً، تحقق وكان ذا شأن كبير في نصرة العراق وتمكينه. إلا أن «حصار» بغداد كان لحظة حاسمة في تشكيل العلاقة بين إيران والعراق، إذ معه انتقلت طهران من موقع النفوذ الخفي إلى حالة القوة الحاضرة البينة بل الحاسمة في مجمل أوجه الحياة العراقية.
وقد تمكنت إيران، نتيجة الهجوم المباغت لتنظيم الدولة، من اكتساب ركيزة جديدة لنفوذها في العراق هي تشكيلات «الحشد الشعبي» والتي تستفيد، في تنظيمها وفي صياغتها كـ «هيئة» ضمن البنية الرسمية العراقية، على التوالي من تجربة حزب الله، القائم بالوكالة عن إيران في لبنان، ومن ترتيب فصائل البسيج والتي جرى دمجها في إطار الحرس الثوري في إيران نفسها. وهنا المفارقة: فأبرز مراجع التقليد في العراق، آية الله علي السيستاني كان قد سعى إلى تجنيب بلاده صيغة ولاية الفقيه الإيرانية، وإذ به من خلال فتواه للجهاد الكفائي يمنح المشروعية لفصائل الحشد الشعبي، والتي تعلن الولاء بدورها للولي الفقيه في إيران. فالسيستاني كان قد عارض قيام ازدواجية لمراكز القرار السياسي داخل العراق، وأصرّ على إبقاء دور المرجعية الدينية ضمن الإطار المعنوي لا السلطة السياسية، وإذ بمواقفه هذه تتهشّم نتيجة فتوى أصدرها بنفسه.
ما هو أقل جلاءاً أن الحضور الإيراني المتعاظم قد استدعى كذلك ظهوراً لوطنية عراقية كانت قد تعرضت لانتكاسات عدة، دون أن تتلاشى. وكانت الاتهامات قد أَلصقت بنوري المالكي صفة التابع لإيران. والواقع أن نوري المالكي نفسه، رغم التماهي والتجانس الطائفي في أكثر من موقع مع إيران، قد اجتهد للمحافظة على مساحة للقرار الوطني العراقي، متخلياً عنها بالتدريج مع كل فشل واجهه سواءاً مع دول الجوار (بما في ذلك تركيا) أو مع الفصائل السنية والكردية كما الشيعية داخل العراق.
والتوافق على حيدر العبادي خلفاً لنوري المالكي كان بالنسبة للعديدين من باب القيول بالحد الأدنى المشترك، إذ أن العبادي لا يثير اعتراض أي من الأطراف الفاعلة داخل العراق أو خارجه. بل ثمة من اعتبر أن العبادي هو بمثابة قائم مقام مؤقت، بانتظار أن تفصل القوى الرئيسية بالمسألة وتتوصل إلى صيغة أكثر ديمومة، أو أن يعلو أحد الفصائل على الآخرين فيكون له مراده. غير أن حيدر العبادي قد أظهر كفاءة مرتفعة في الإبحار في محيط مليء بالمخاطر والمفاسد، وفي مراعاة حالة سياسية شيعية عراقية متشظية، محققاً في أوساط عدة قناعة واسعة النطاق بأنه الأصلح للإمساك بزمام الأمور وللتعامل مع «الشريك» الإيراني بمطالبه المتصاعدة – مقدماً له ما يرضي شهيته في توطيد حضوره، إنما مع المحافظة على هامش من الاستقلال إزاء أوامره ورغباته.
فالمعادلة التي اعتمدها العبادي ضمناً هي التركيز على التحديات الرئيسية التي تواجه العراق، مع الامتناع عن الخوض بأية مسائل من شأنها تبديد الجهود، سواء كانت داخلية أو خارجية أو عقائدية. وقد تولى العبادي، بصفته رئيس الوزراء في مرحلة ما بعد تمدد تنظيم الدولة، دوره كقائد عام للقوات المسلحة، بزخم حاسم يسعى إلى إنزال الهزيمة بالجهاديين وإعادة السيادة العراقية إلى كافة الأراضي التي استباحوها. وزخمه هذا، إذ جاء منسجماً مع القرار الذي وضعه التحالف بقيادة الولايات المتحدة لاستنزاف تنظيم الدولة وصولاً إلى القضاء إليه، فإنه كان كذلك متماشياً مع الرغبة الإيرانية بتوطيد «الحشد الشعبي» كجزء دائم ضمن بنية القوات المسلحة في العراق. وإحسان الظن بالعبادي يسمح بالاعتبار أنه من خلال وضع فصائل الحشد تحت إشراف هيئة رسمية تابعة له، فإنه قد أطلق تحولاً ممكناً باتجاه ضبطها والتأثير عليها، رغم أن تمويلها من إيران، وولائها لإيران، في أكثر من حالة. كما أنه تجنب سقوط البلاد في حالة من الفوضى العبثية. غير أنه ثمة من يطعن بالفعل، فيعتبر أن قرار العبادي أضفى على النفوذ الإيراني شرعية كان يفتقدها وكرّس حالة شاذة من السلطة الخارجية على جزء هام من المنظومة الدفاعية العراقية. واقع الأمر أن الحشد الشعبي كان عنصراً أساسياً في المجهود الحربي البري للقضاء على تنظيم الدولة. وسواء رضي العبادي بوجوده أم لم يرضَ، فإن الحشد كان حقيقة قائمة في عراق ما بعد فتوى الجهاد الكفائي. أي أن العبادي كان أمام خيارات جميعها سيئة، وخياره كان بالفعل أقلّها سوءاً.
واليوم، بعد الانتصار على تنظيم الدولة، يتجلى السوء الكامن في خيار العبادي. إذ إيران قد دفعت بحشدها العراقي في اتجاهين، كل منهما يؤذي العراق وسيادته وتماسكه. فبعض فصائل الحشد الشعبي قد وجهّت للقتال في سوريا دعماً للنظام، في تجاوز لأي اعتبار إداري حول خضوعها المفترض للحكومة العراقية. والتبرير (المغالط) هنا هي أن المشاركة بالمعارك الخارجية لا تجري بصفة الانتماء إلى الحشد الشعبي ككيان تابع للحكومة، إنما بصفة الانتماء للفصائل التي يتكون منها الحشد والسابقة له. أي أن دمج هذه الفصائل في البنية الدفاعية العراقية انتقائي أهوائي ووفق المصلحة الآنية لمن يوجهها. أما اتجاه التحول الآخر، والأكثر خطورة، هو أن قيادات الحشد الميدانية، وهي التي سبق أن ناقضت المواقف الرسمية للحكومة ورئيسها في حالات عدة، قد أعلنت العزم على خوض المعركة الانتخابية القادمة، بصفتها كيانات سياسية. فالأوضاع في العراق قد لا ترتقي، بالنسبة لإيران وحشدها، إلى مستوى الإيجابيات التي سمحت بتأسيس حزب الله واستثماره في لبنان، إلا أن الصيغة المعتمدة لهذا الحزب، داخل بنى الدولة اللبنانية وخارجها، على ما يبدو، هي الإطار الموجِّه في المسعى الإيراني إلى الاستقرار داخل الدولة العراقية.
أما العبادي، فيبدو وكأنه يعالج النهم الإيراني من خلال الإشارة إلى أن قيادته الثابتة للعراق، وإن كانت لا تمنح إيران ما تسعى إليه من السيطرة الكاملة، تبقى أكثر انسجاماً مع المصالح الإيرانية من حالة الفوضى التي قد تنتج عن فوز لفصائل الحشد. وسبق لإيران أر روّضت معظم الساحة السياسية اللبنانية، متيحة المجال لخصومها في هذه الساحة لتحقيق أهدافهم القريبة، فيما انخراطهم في العملية السياسية يوفّر الغطاء المطلوب للاحتلال الإيراني المستتر للبنان. والعبادي في موقع رئيس الوزراء يقدم لإيران من وجهة نظرها حالة مشابهة. إذ أن العراق بقيادته يحظى بمشروعية وعلاقات دولية مع أطراف عدة، ولا سيما نتيجة الشراكة في الحرب على تنظيم الدولة. فنجاح العبادي في الاستمرار بموقعه من شأنه حماية العراق من تدخلات سلبية خارجية، ما يتيح المجال لإيران بالمضي قدماً في توطيد سيطرتها على دولته ومجتمعه.
إلا أن العراق ليس لبنان، ولا حيدر العبادي هو حسن روحاني – أي «رئيس» منتخب يسعى، عبثاً وإن جاداً، إلى فك القيود التي تفترضها المؤسسة الدينية والحرس الثوري على البلاد. ودرب العراق كي ينعتق من التسلط الإيراني عليه طويل. ثم أنه لا سبيل إلى التأكيد أن هدف العبادي هو بالفعل الخروج من الإقطاع الإيراني. بل إن الموقف المتكرر على لسان العبادي، وعلى لسان قاسم سليماني، صاحب هذا الإقطاع الإيراني في العراق، هو أن هذه التبعية المفترضة من العراق لإيران ليست إلا أوهام مغرضة يتناقلها من يريد الإضرار بالعلاقة الوطيدة بين البلدين. ورغم ذلك، فإنه إذا كان لا بد من تصميم تصور يوصل العراق إلى الانعتاق المنشود، في خضم تعاظم النفوذ الإيراني وغياب الإرادة على مستوى المنطقة والعالم لدعم جهد التحرر، فإن هذا التصور سوف يتضمن حتماً ضرورة التركيز على رصيد الانتصار على تنظيم الدولة للشروع بجهد إصلاح سياسي وعدالة اجتماعية وتصدٍ للفساد ومعالجة للأسباب العميقة والشروخ التي تدفع بعض العراقيين نحو التشدد والتطرف. وهذا هو بالضبط برنامج حيدر العبادي.