وديع شامخ :*
لن اجهد نفسي وقارئي كثيرا في البحث عن اصول مفردة ” تمسلت او هذيان ” ، فهي مفردة غائرة في تراث البصرة – جنوب العراق ، كناية عن اللغو في الكلام وهي تماثل الهذيان ، فيقولون بلهجة بصرية محببة ” هذا يمسلت اي يهذي ، وهذه تمسلت ، وهؤلاء يمسلتون”
وبما أن الهذيان يرتبط بمثير كامن ومحسوس ، في البصرة يرتبط بموسم الصبور، وهو طقس بصري مخصوص أيضاً ، فيه يكون سمك الصبور سيد موائد البصريين ، سمك مخصص للشواء ويحشى بمخلوط البصل والثوم ونومي بصرة وتمر الهند ويقدم معه (الدقوس ) – صلصلة الطماطم مع الثوم والفلفل الحار – ، كما ويحضر أيضا كمرقة (التثخانة )و(المعلوكة )و(المسموطة ) ولا يُقلى ،ومنه بحري خالص ومنه النهري البصري ، ولعل أهل فاو البصرة أكثرمعرفة بصيده ، وهو من أسرار المطبخ وسر عافية حياتهم الذي سطا عليها الزمن بكل ملوحته وغثه .
……….
في لحظة مجنونة من زمن النظام البائد ، يحلو لإبن الرئيس المدلل (نصف المعتوه ) أن يدس أنفه في اي عمل مربح ، فصار اخطبوطاً في السوق لايدانيه أحد ولا يسلم من كيره حتى الحداد ، فجاع لسوق الصبور في البصرة وجهز السيارات المبردة لنقله الى سوق بغداد ، فشح الصبور في موائد البصريين وفاض هناك ، وللمفارقة وهنا يتجلى ” التمسلت” بغدادياً ، حيث ينحر الصبور في المقلاة قلياً بالزيت ، ويغادر ناره وشواءه ومطيبات النكهة البصرية في حشوه ،ومقبلات المائدة بتقديمه كامل الوقار وكأني بالصبور مثل الذي لا يعرف قدر النسر فيشويه وهنا افسد الولد المدل نشوة المسكوف البغدادي بخيبة الصبور العراقي وتاه ايقاع المدن وتصحرت الحياة من غزاة البوادي على حواضرها
كان صبور البصرة يفيض عن حاجة الأفواه والتنانير وحتى حبال نشره لمواسم اخرى وتنكات تمليحه ايضا ، والفائض تحرقه بلدية المدينة.
.
………
ولكن للصبور لعنته أيضا ، فرغم كل دلال البصريين له وعشقهم له ، وسرانيتهم في تحضيره وخصوصيتهم في التهامه مع كل عظامه الوارفة ، فانهم يصابون بنوبة من الكسل ، وكأنهم مصابون بالكيماوي وخصوصا بعد شربهم اللبن بالنعناع معه والشاي الثقيل بعده ، حتى يبدأ موسم التثاؤب والشروع في قيلولة الأحلام الوثيرة .
…………..
الصبور كما جاء في المثل ” سمك مأكول مذموم ” ولأن الجنوب بطن العراق الرخو ، والبصرة جنون الجنوب ، واهل البصرة في النهايات القصوى من الجنوب ، فهم في بستانهم وكأنهم بوادٍ غير ذي زرع ، وهم في زمانهم ولكنهم يلوكون لهجات مرّة، وفي خضرتهم وهم في قحط ولهاث ، فصار التمسلت عادة وعبادة ، وليس عاهة وطقساً ، واصبح الذي يُمسلت من علية القوم حصرا. .
……………..
وشر التمسلت- الهذيان- الذي يجيء من زفرة الشط وليس من سمكه، ومن وهن المدينة وليس من عمقها، ومن طارىء الحياة وليس من ثوابتها ، وهكذا صارت البصرة مواسم للتمسلت بنزوات الغزاة ، تارة للشعر على نظامه البدوي ، وأخرى لمواسم الساسة ومناجلهم السامة على صفرة الحقول ، وقيحهم على خضرة النفوس .
فصار” تمسلت العامة ” في موسم الصبور طقسا تطهيريا للقهر العام ، بعدما أخذ التمسلت السلطوي يلدغ القيلولة وسر الاحلام.
…………..
البصرة التي كانت تنعم بجنون أولادها وبمبدعيها ومواسمها وكسلاتها وربيعها المائي، وشتائها الساحر وصيفها الماكر وخريفها المجنون، وتلبس حياتها لبوسا يليق بها، ومزاجا رائقا برقصات اهلها وايقاعات هيوتها وجنون عشاقها الذين يكحلون الحياة بمداد ارواحهم وخضرة قاماتهم .
البصرة ثغر العراق الذي تكسرت الابتسامة على مداره، وشد المحاربون اقواسهم لرميها بالسهام ” سهام التمسلت”.
……………………………
جاء في الحكاية ان سمك الصبور قدّم شكوى رسمية لحاكم المدينة يدفع فيها الشبهات عن سيرته العطره وما أثير حوله من جدل في صيده وأكله وما يخلفه من زفرة وهذيان ..
وكان حاكم المدينة بريّا له مع اللحوم وهبيطها شأن عظيم ، فأشار للقاضي المديني الساكن على افواه المياه بصدور الحكم بين الصبور وعاذليه ،
فرزق الله القاضي حكمة عظيمة وهو بين فكي المكيدة ، نار الحاكم وسيفة ومظلومية الصبور وزفرته ، فقال بعد الاتكال على الله :
من اصطاد صبورة وقلاها فعليه قصاص عظيم ، ومن شواها واكلها حتى عظمها بحبور فله الاجر والعافية .
فقد اسقط ما بيدي الجمهور والحاكم والمدعين وراح الصبور يرقص فرحا ، والعاقبة للصابرين ..
- كاتب وشاعر رئيس تحرير مجلة النجوم الاسترالية