وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

ثقافة وفنون

المفكر العراقي عزيز السيد جاسم ثروة فكرية وأدبية كبيرة سوف تظلُ مدرسةً للأجيال

المنامة/ عبد الله خليفة – كاتب وروائي من البحرين 
المناضل والكاتب العراقي الراحل عزيز السيد جاسم عاش حياة دراماتيكية مأساوية، ومثل مثقف التغيير الضائع بين الشموليات الحزبية والحكومية المختلفة. في بدء حياته قارب حياة العمال فاشتغل في مصنع ثلج، فقارب الحزب الشيوعي العراقي وانضم إليه، وكان ذلك زمن الخمسينيات والتحضير لانقلاب 14 تموز 1958 الذي شارك عزيز السيد في التحضير له والمساهمة فيه.

المفكر العراقي الراحل عزيز السيد جاسم

مجموعةٌ من التناقضات حكمت لحظة هذا الانقلاب، الذي دخل نفس مسار التطور المعقد المتناقض في العالم العربي الإسلامي، حيث لا توجد قوى اجتماعية تحديثيةٌ تقودُ التحول الديمقراطي، فكل من تنظيمي البرجوازية والعمال كانا شموليين، غير قادرين على تجسيد مستوى الطبقتين على الصعيد العالمي الوطني.
الحزبُ الشيوعي من جهةٍ كمعبرٍ عن العمال، وحزب البعث كمعبر عن البرجوازية، كانا محكومين بمصدرين فكريين سياسيين خارجيين مستوردين، الشيوعي في ارتباطه بالنسخة الرأسمالية الحكومية الروسية الشمولية، والبعث بارتباطه بالنسخ القومية الفاشية المنتجة سابقاً في ألمانيا وأيطاليا.
إن مستوى تكوين الحزبين الغائصين في ترب شعبية وقبلية ومذهبية لم يكن بإمكانه من إنتاج ثورة ديمقراطية عراقية، ولهذا فما حدث هو انقلاب عسكري بقيادة البرجوازية الصغيرة المتذبذبة بين الإيديولوجيات والطبقات، وهذا المسارُ الموضوعي تجسدَّ في شخصياتٍ عسكرية مثّلتْ هذا التذبذبَ المغامر في جهات شتى حادة، زاوجتْ بين التغييرِ الاقتصادي الاجتماعي المفيد وبين المشكلاتِ والكوارث، بدلاً من التوجه إلى أسسِ الحداثة الديمقراطية العالمية وخلقها بشكلٍ متدرج وطني تعاوني.
وجد عزيز السيد جاسم نفسه في هذه الدراما التاريخية، في تربة العاملين الفقراء يحملُ ميراثَ أسرته الموسوية ذات الجذور الشيعية الثقافية، فجمع بين الكدح المادي والانتاج الثقافي.
عضويته في الحزب الشيوعي اصطدمت بين إيديولوجية الحزب ومستواه الثقافي العميق. فالحزبُ كان يحملُ نسخةً روسية تحجرت في المركز نفسه، وغدت مفردتا القوميةِ والدين خارج البؤرة، وتكمنُ في البؤرةِ الطبقةُ العاملةُ ودورُها القيادي التاريخي المزيحُ للطبقات الأخرى. هذا ما أدى مع عوامل وجهود سياسية أخرى إلى سلسلةٍ من التطورات الحارقة في العراق بدءًا من عقد الخمسينيات. مثقف مثل عزيز السيد لم يكن بإمكانه تقبل مثل هذه النسخة الجافة غير المرتبطة بالواقع وجذوره التاريخية، رغم أنه من المساهمين في صنع الانقلاب وسيطرة طبقة غير طبقته راحت تجرب في الناس والواقع. هذا يعبر كذلك عن شلل طلائع الطبقة العاملة في المركز الروسي وفي العراق معاً، حيث غدتْ البيروقراطياتُ السياسية تحركُ تاريخَ التجريب الحارق. لكن وعي عزيز السيد لم يتوجه إلى معرفة الخصائص العامة للتطور، والاختلافات المحورية مع الشيوعيين بدايةً ومع القوميين بعد ذلك. فقد كان رفض الدين وتقزيم القومية بمثابة صدمة غريزية لم تتبلور نظرياً، وسوف تؤدي التراكماتُ المعرفية السياسية إلى بعض من هذه الرؤية التي لم تكتمل. الخروج من الحزب الشيوعي لم يخرجه من اليسار ومن البحث الفكري، ومن مقاربة قوى التغيير الصاعدة في تدفق البرجوازية الصغيرة التي راحتْ تتحول من العسكريين التموزيين إلى القَبليين السنةِ العسكريين الشموليين.
وعزيز إذ يعبر هو ذاته عن هذه الطبقة المتأرجحة فقد بقي في تدفقها السياسي، يرفض الهجوم وقمع القوى السياسية من هذا الطرف أو ذاك، ويؤيد تعاوناً بين هذه القوى لمواصلة إنجازات انقلاب تموز الذي قام بتحولات في الريف والصناعة لتحويله إلى ثورة، تبتعد عن الانقلاب والعسكر لتكونَ تحولات بين قوى سياسية وطنية مشتركة في مشروع.
وهو في هذه الدعوة والتأثير يتعرض للسجن والاضطهاد في سنوات الستينيات العراقية الدموية العنيفة.
مثلما يقوم بمواصلة الحفر في التراث وكتابة الأعمال الفكرية والأدبية، لكن هذه المعرفة لم تصل إلى فهم عميق واسع للطبقة التي انضم إليها واشتغل في وسطها مناضلاً أو معارضاً، وطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية وكيفية الخروج منها، وهي إشكاليةٌ سوف نرى جذورَها في الطرح الفكري لديه، فكتاباتُهُ لا تنفصلُ عن عمله السياسي، وهي التي تجعله يتخذ مواقفَ سياسية بعينها.
إن رفضَ الشيوعيين للدين وتقزيم القومية وهو أمر رفضه عزيز وانسحب من تجسيداته السياسية، لكنه كذلك لم يقبل بتضخم الدين والقومية وتحولهما إلى شكلين استبدادين كما لدى البعث، لكن عملية التجاوز الجدلية لكلا الموقفين، لم ينتج لها معرفة كافية مغيّرة. عبرتْ كتاباتُ عزيز السيد جاسم عن موقفهِ المحتفي بكلِ توجهٍ تقدمي في التراث العربي الإسلامي والتراث الإنساني معاً. فهو من عائلةٍ شيعيةٍ عريقة هي عائلةُ الموسوي لكنه لا يتحنط ويتقوقع في المذهبية. إن عدمَ تحوله إلى شيعي مذهبي مُسيّسٍّ هي مثل رفضه للماركسية حين تتحنط في شموليةٍ غيرِ منفتحة على الدين والقومية، مثل رفضه للبعث حين يغدو شمولية. لكن كتاباته الأدبية والفكرية هي جزرٌ صغيرةٌ في محيط، فهي تعبرُ عن اهتماماتهِ الاجتماعيةِ الشعبية في ظل دائرته، فكتابتُهُ عن الشريف الرضي الشاعر الكبير من العصر العباسي، أو عن الإمام علي بن أبي طالب هي جزءٌ من اهتماماتهِ الانتمائية الاجتماعية لمذهبٍ ولا تُجيرلا لتصعيدِ وعي مذهبي غير ديمقراطي، بل هي تناول لتلك العناصر الإنسانية في النموذجين التي هي عناصرٌ بشرية مضيئةٌ مفيدة للعالم عامة.
زاويةُ الرؤيةِ تخضعُ لمنهجهِ الذي يضفرُ بين العناصر التراثية الشيعية والقومية والتقدمية الاجتماعية، فهو حين يدرس الشاعرَ الكبير الشريف الرضي يخضعهُ لمقولةِ الاغتراب الحديثة، وليس لكونه من طائفة مختلفة عن العباسيين الحاكمين، بل إن جذوره الأمامية هي جزءٌ من تاريخه الاجتماعي الأسري النضالي، حيث مثّلَ الأئمةُ ذلك التاريخ النضالي لتأسيسِ عدالةٍ وليس لحكم أسرة، ولهذا يرجعُ عزيز السيد غربةَ الشريف الرضي لهذه الجذور وإصطدامها بحكمٍ جائر وبعلاقات إجتماعية صعّدتْ قلةً من الأغنياء البذخيين المترفين وغالبية شعبية فقيرة. وفي هذا السرد الثقافي التاريخي الاجتماعي يتغلغلُ في شعر الرضي ويقارنه بأشعار آخرين. ويبرز في هذا البحث توجه المؤلف للانتماء القومي، فهو يعرض بالبهويين الفرس، ويعتبرهم سبباً مضاعفاً لتدهور الوضع السياسي الاجتماعي في العراق والدولة عامة. والنبرةُ القوميةُ العالية هنا ذاتُ هدفٍ سياسي إيديولوجي، للفصم بين المذهبيةِ والفرس الحكام وليست تحليلاً موضوعياً فالفسادُ السياسي الاجتماعي كان بسببِ مختلف الأقوام عرباً وفرساً. ويمثل كتابه (متصوفة بغداد) عينةً أخرى على طريقة عزيز السيد في التحليل من خلال النزول في جزيرة وسط البحر التاريخي. فهو يعرضُ للعاصمة بغداد ونشؤها بتفاصيل تاريخية وثقافية وفلكلورية مهمة، وتهمنا عينات من هذا التحليل لقراءة رؤيته.
بدايةً هو لا يعتبرُ حكمَ أسر الأشراف تحولاً انقلابياً تاريخياً بالضد من العصر النبوي الراشدي، ويبدو لديه كاختلاف فردي وظاهرة مستمرة من العهد السابق.
ويقومُ بدراسةِ مدينة بغداد التاريخية بشكلٍ عميق منوع يكشفُ طبيعتَها الداخلية التعددية، مثلما يقوم بقراءة فرقها الدينية وعلاقاتها الاقتصادية الاجتماعية، وهي الظواهرُ التي أدت إلى ثرائِها الثقافي الكبير، يقول:
(وكانت نظمُ الجماعات السكانية المغلقة (في أمورها الخاصة) تكرس التقاليد الطبقية، المتداخلة مع الاعتقادات الاجتماعية، في إطار البنية الاجتماعية التي تقفُ على رأسها نماذج ارستقراطية للرئاسة الاجتماعية والمذهبية) ص 40، متصوفة بغداد. ثم يؤرخ ويحدد اجتماعياً طبيعة الارستقراطية إقطاعية، ثم ارستقراطية متمدنية وهو توصيفٌ مهم ولكن لا نعرف الطبيعة الملموسة التاريخية لهذا. المشكلةُ الفكريةُ في هذا العرض هي اعتباره المتصوفة قوى ثورية، فيذكر: (ومن المحقق إن اشتهار بغداد بالتجارة والإدارة بوصفها العاصمة الكبرى للمسلمين كان يعني من الوجه الآخر ميلاد التمرد على التجارة والإدراة ورفضهما فكان الزهد -أحياناً- ثمرة من ثمار ردة الفعل ضد كثافة الدنيوية الماثلة في سلطان المال والدواوين) ص49، السابق.
(كانت الصوفية تعبيراً عن الثورة الاجتماعية كافة).
لكن الصوفية كانت شكلاً من أشكال الإقطاع الديني، المعارض للإقطاع السياسي الحاكم، ولا تملكُ برنامجاً تحويلياً بقدر ما هي تمثلُ عمليات تفسخ للنظام الاجتماعي السياسي، وهي على مستوى المعرفة رؤية لا عقلانية، ويعتبرُ ذلك تدهوراً في تطور الثقافة الموضوعية، وانسداداً لآفاق النضال العقلاني. كانت الصوفية تعبيراً فكرياً عن بداية انهيار الإمبراطورية العربية الإسلامية فقد نشرت الصوفيةُ وميضاً بارقاً دينياً مغرقاً في اغترابه وعبرت عن التحلل التاريخي الاجتماعي ومن ثم انتشرتْ بعد ذلك عملياتُ الدويلات الإقطاعية. إنها ثورة مضادة.
تصاعد نشاط عزيز السيد جاسم الوطني المثابر لتغيير الواقع العراقي ولكن أدى قصورِ فهمه لجوانب محورية من طبيعة الأنظمة والعصر والتاريخ إلى مأساته السياسية.
كان انقلاب تموز العسكري قد بدأ في تآكل طبعته الأولى عبر صراعات قطبية الشخصين قاسم وعارف المعبرين عن تناقضات بنيوية في نظامٍ متخلف لم تتشكل فيه قوى التجاوز الحقيقية، حيث تصارعت الشيوعية والرأسمالية، والقومية العربية والانعزالية، وعمليات الإصلاح والتغيير ونقيضها، حتى كان حكم البعث وراثة انقلابية أخرى بعد أن فقدت رأسمالية الدولة العسكرية قاعدتها الاجتماعية، وأستعيض عنها بتوسعٍ عبر القَبلية والطائفية والمحافظة والعنف. لم يقم عزيز السيد بقراءةِ النظام السياسي عبر بنيته وموقعها في علاقات الإنتاج التاريخية، فكانت تجريبيتُهُ وسطَ منظمات البرجوازية الصغيرة بلا جدوى، لكنها عَرضتْ مصيرَه الشخصي للزوال. كانت شكلاً لعدم معرفة التطور الحقيقي، ففيما الصراع الطبقي يُصعدُ أكثر قوى العنف تطرفاً يتوجه الحالم لأنسنة الوحوش. وقد رأينا كيف مَوضعَ عزيز السيد الصوفيةَ وسطَ الحراكِ الثوري، وهي بخلافِ ذلك، وغارقةٌ في الغيبيةِ والتحلل الاجتماعي، ولهذا فإن غيابَ الرؤيةِ للاتجاهات السياسية المعاصرة وطبيعتها الاجتماعية جعلتهُ ينتقلُ بين تياراتٍ عدة، كلها شموليةٌ مفتقدةٌ لما يريد من ديمقراطية عميقة!
لكن التمسك برأسمالية الدولة العسكرية بل المشاركة في صنعها، ترتب عليه استمرار مراهنته عليها، وإمكان حدوث ديمقراطية وسطها، فيما كانت تنتقل لمرحلة أكثر ضراوة. فقد كان صعود رأسمالية الدولة عبر طبعة طائفية متعصبة وقيام (إصلاحات) تدعم وفرتها المالية عبر تأميم النفط وهو المشروع الذي خطط له عزيز السيد نفسه، قد أتاح للأجهزة الشمولية استغلال الوفرة المالية في التوسع الأمني والعسكري وشراء الذمم والقيام بالحروب الداخلية ضد الشعب العراقي والشعوب المجاورة. فالوفرة مهمة للإصلاحات ولكن في ظل نظام ديمقراطي يوجهها للتنمية.
هذا هو نفس مصير وفيق السامرائي المثقف الآخر الذي صادق عزيز السيد للقيام بخلقِ نواة ديمقراطية وسط السلطة فتعاونا لتطوير الوعي النقابي العمالي والثقافة الديمقراطية من خلال صحافة السلطة، لكن هذا التعاون والزخم الذي توسع بمشاركة عناصر يسارية أيقظ قرونَ الاستشعار لدى قوى اليمين المتصاعدة والذي رأت خطورته الجسيمة على موقعها خاصة إنه ينمو داخل مؤسسات السلطة. هذه كانت أكبر أخطاء اليسار العربي الذي يفتقد الديمقراطية والرؤية الموضوعية داخله، ويترك خصمَه الحضاري المفيد وهو البرجوازية التحديثية ويصارعها ويُصعّد قوى البرجوازية الصغيرة العنفية التجريبية وقوى اليمين الديني الفاشي. وهكذا كانت تصفية النظام الملكي ذي القواعد الأكثر حضارية من نظام العسكر، وعدم تنمية التحالف التحديثي بين قوى الانتاج الوطنية العمال والبرجوازية، قد جعل قوى المثقفين التنويريين واليسار والجماعات القومية المختلفة في زاويةٍ ضيقة مع تصاعد رأسمالية الدولة العسكرية في المركز التي غدت أداة سحلِ الخصوم على طريقة العديد من الدول الأخرى كسوريا وإيران وباكستان وغيرها.
ولكن كانت الطبعة الصدامية الدموية ذروةً لهذا. إن المثقف المستقل الباحث المحرك للوعي الديمقراطي يقف وظهره للحائط، ولهذا فإن اعتقال عزيز السيد جاسم الأخير لم يكن كالاعتقالات العابرة الأولى، كان عملية دهس لفكره وإجباره على كتابة كتب مغايرة لقناعاته، وتعذيبه، حتى تغييبه عن الوجود ومحو جسده الذي لم يُعثر عليه بعدئذ.
كانت السلطة الفاشية على العكس من أحلامه تدرك أن دوره للتغيير وسطها انتحار. الجوانب الفكرية المتقطعة والكتب التجميعية للمواد الأدبية والفكرية لم تكن تكفي دون تحليلات معمقة للبُنية الاجتماعية وطبيعتها وعلاقتها بالتشكيلة التاريخية، وضرورة تجاوز الشموليات(الاشتراكية) بتحليلها ونقدها والتوجه لخلق نظام ديمقراطي على غرار الغرب وتجميع الصفوف والقوى في سبيل تنامي ذلك. رغم كل شيء ترك عزيز السيد جاسم ثروة فكرية وأدبية كبيرة سوف تظلُ مدرسةً للأجيال.

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961