عبد الله خليفة
كاتب وروائي من البحرين :
لم تكن المرحلةُ الوثنيةُ الجاهلية تستدعي في مرحلة مكة الإسلامية المؤسسة، عمليةَ نقدِ شربِ الخمور، فقد كانت لها شعبيةٌ كاسحة، خاصةً مع الإحتفالات الطقوسية ذات الآلاف من السنوات، فكان النقدُ ينصبُ على عبادةِ الأوثان المُفكِّكة للعرب، والمؤدية لتمزقهم السياسي، وحين أخذت الدولةُ تتشكل في المدينة بخطواتٍ صغيرة، وبجهودٍ محاصرةٍ من قبل كثرة الأعداء الوثنيين واليهود وغيرهم، كان الأمرُ يدعو إلى تنامي الإنضباط العسكري لتلك القلة من المحاربين، ولما جاء في شرب الخمور لدى العرب البدو من فوضويةٍ وتخريبٍ حتى للمسجد الوحيد الذي ظهر في التاريخ.
كان لا بد هنا من التحريم السببي، وحين انتصر العربُ على أعدائِهم وتوسعتْ الدولةُ من مشارق الغرب إلى مغاربِها وإحتوت أمماً وشعوباً كثيرة، مالتْ سياساتُ الخلفاءِ للمرونةِ الاجتماعية مع هذه الشعوب وتقاليدها، ولم تُستخدمْ الأحكامُ الدينية الصارمة في مرحلة التأسيس، في مجالاتٍ عدة.
وجه الأئمة الكبار الأنظارَ السياسيةَ نحو الفساد السياسي بدرجة خاصة، وصعدوا الحريات الخاصة والعامة. فواقع الإنفتاح والثراء وغياب الأزمة الاجتماعية الحادة لم تستدعي التوجهَ إلى التشدد في الأحكام الجزئية وقضايا الحريات الخاصة، وهناك فرقٌ شاسعٌ بين أوضاعِ الفنون والحريات في زمنِ الجزيرة العربية البدوية وأوضاعها في زمن الحضارة والتعددية الاجتماعية السائدة وقتذاك!
لكن مع الأزمات في النظام السياسي الشمولي وعجزه عن تطوير حياة الأغلبية بل وإستغلالها ببشاعة، وتدهور أحوال الزراعة مصدر الإنتاج الرئيسي وهجرة المزارعين القرويين المعدمين للمدن، وهجمة البدو من الصحارى عليها، تدهورتْ الأحكامُ الفقهية، وتعالت أصواتُ المنع، بسببِ سيطرة ضيق الأفق على الكثيرين من رجال الدين، وعدم توغلهم في فهم أزمة المسلمين الحقيقية في النظام الاقتصادي وسوء توزيع الثروات في نظامِ الخلافةِ الاستبدادي البذخي، وسادتْ النصوصيةُ المقطوعةُ الجذور عن سيرورةِ تطور المسلمين وأهدافهم الجوهرية في التقدم الحضاري.
فكان المنعُ في الفترةِ الأولى والفترة الثانية مختلفين، فكان الأولُ من أجلِ النهضةِ والقفزة الحضارية وكان الآخرُ من أجلِ القمع وبسبب إنسداد الآفاق الحضارية ومجيء زمن الانحطاط. فكانت الأحكام ليست لانتشال الأمم الإسلامية من المأزق بل لزيادةِ غرقها فيه!
وقد بقيتْ رؤى محافظي زمنِ الإنحطاطِ مستمرةً بإعادات إنتاجها الضيق الأفق في فقهٍ نصوصي لا يرى أهمية توسع الحريات وربط المسلمين بالثورة الصناعية الأوربية المتفجرة، بل يرى وضع القيود على المسملين رجالاً ونساءً وإسدال الستار عليهم وعزلهم عن الثورة الحضارية والديمقراطية المندفعة في الغرب، فكانَ ذلكَ سبباً لغزو بلادِ المسلمين وإحتلالِ أراضيهم وسرقةِ ثرواتهم.
وبهذا فقد تم إسقاط السيطرات المحافظة الدينية من قبل الغرب المسيطر، ومن قبل جمهور المسلمين الذي فُجع بمستوى قياداتهِ الدينية والسياسية التقليدية وتخلفها، وعجزها عن الدفاع عن الدين والأرض.
فنشأت قوى جديدة إستلهمتْ الثقافةَ الإنسانيةَ الجديدة ومزجتها بإرثها السابق، ولم تتخلْ عن القضية، فنشأتْ حرياتٌ أوسع في كافةِ مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية، وهي التي ساهمتْ في طردِ المستعمرين وتحرير البلدان وإنهاض الشعوب العربية والإسلامية.
لكن القوى الاستعمارية والتقليدية وهي ترى عمليةَ إنهيارها من قوى الحداثة إستدعتْ الثقافةَ الدينية التقليدية الطوائفية وبعثتَها من القبور، وشجعتَها في كلِ مجالاتِ الحياة لتركيزها على ما هو تفريقي وما هو سطحي ومعرقل للنهضة الجذرية.
حدثت عمليةُ إنهيارٍ أخرى مشابهة لما حدث في أواخر الدولة العباسية بحدوثِ أزماتٍ عميقة في الدول العربية والإسلامية الشمولية، وتراجع القوى الحديثة وعدم طرحها حلولاً عميقة للأزمة، فقامت القوى التقليديةُ الطائفيةُ بالهروبِ إلى الإمام والقفز على سببياتِ الأزمات الحقيقية، بدءً من العودة لتطبيق الحدود عبر الفهم النصوصي الضيق الهروبي من القضايا كما حدث في بدء زمن الصعود الطائفي حتى قضايا منع المسكرات والحجر على العقول.
مع كل أزمة عميقة يتم تصعيد الدينيين المحافظين ويتم الابتعاد عن سببيات الأزمات وحلولها، وتفجير قضايا جانبية، خاصة مع تدفق القرويين والبدو على المدن، وإستخدام مستوى فهمهم لتوسيع القمع والتدخل في حياة الشعوب.
تركز القوى المحافظة الطائفية على الفهم الجزئي، والشكلاني المعزول عن سيرورة التاريخ وأسباب إنتاج الأحكام، وتغيبُ عنها مقاصدُ الشريعة الكلية في جعل الأمم الإسلامية متقدمة متحررة، فتقوم بتمزيق الصفوف، وترفيع ما هو ثانوي إلى درجة الكلي المطلق، فتدمرُ ما تريد بناءه، وتشل فاعلية الأمم، وتسهل بلعها من قبل الأعداء وتحلُ ضيقَ أفقِها أمام ثراء الوعي النهضوي الديني نفسه.