وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

أهم الأخبار ادب وتراث

رفعت السعيد والسرد السياسي

بقلم : عبد الله خليفة / كاتب وروائي من البحرين 
رفعت السعيد يمثل العصامية النضالية والإنتاج الفكري المتراكم الطويل عبر حقبة طويلة في تاريخ مصر والعالم العربي. فقد حُشر في السجن طويلاً دون أن يكملَ دراسته الجامعية، لكن ذلك لم يمنعه أن يواصل الدراسة ويحصل على الدكتوراة، بعد حفر طويل في التاريخ الاجتماعي لمصر بدءً من الأساس الاجتماعي للثورة العرابية إلى التأريخية الطويلة الدقيقة للفكر الاشتراكي في نفس البلد إلى عروض للشخصيات التنويرية خاصة في النصف الأول من القرن العشرين في ذات الثقافة المصرية، إضافة لكتابته للروايات أثناء (فسح) السجن، أي ثمة إنتاج غزير، يمثل موسوعة تاريخية إجتماعية، لا يمكنك أن تفهم تاريخ مصر والعالم العربي الحديث بدون الإطلاع عليها.

الكاتب عبد الله خليفة

كتاباه(مجرد ذكريات)الجزء الأول والجزء الثاني الصادران عن دار المدى سنة 1999، مكتوبان بطريقة السرد القصصي، والشخصية الرَاوية هي المؤلف، وينقسمان إلى زمنين سياسيين، زمن النضال اليومي والتعرف على الشيوعية التي يتبناها رفعت السعيد في شبابه الغض دون درس، وكيف ناضل لبثها من خلال مدينته(المنصورة) بقوة وكفاح منقطع النظير، فهو الفتى الذي يدخل السجن ويخرج ويطبع المنشورات متعلماً كيف تكون الطباعة بوسائل بسيطة، وهو الذي يعيش داخل أسرة متوسطة ميسورة الحال ولكنه يفضل البساطة والجوع في نضاله، وهو الذي يقارع نظاماً عسكرياً باطشاً هو النظام الناصري، ويقضي من شبابه في هذا كله أربع عشرة سنة من أجل نشر المنشورات وزرع الخلايا وتكوين المناضلين.
إن التنظيم الذي إنضم إليه بتلك السرعة والذي تعلم من داخله وتثقف وصار باحثاً ودكتوراً في العلوم الاجتماعية، هو الحركة المصرية للتحرر الوطني(حدتو)، وكان التنظيم يعمل على إنشاء مجتمع مصري متحرر ديمقراطي، ولا يشرح لنا الباحث هنا كيف فهم ذلك، وكيف أن الصراع مع نظام عسكري يتوجه بالضرورة نحو بناء نظام ديمقراطي، وكيف إندمج المشروع (الشيوعي الديمقراطي) هذا مع تنامي المشروع الناصري التحويلي الدكتاتوري وقد إبتلع المجتمعَ كله في(إشتراكيته)؟.
لا يتيح المؤلف أن نفهم العناصر الداخلية في هذا التنظيم، لكن المواد السردية المقدمة توضح طابع التعليمات المنهمرة من المستويات العليا، وغياب المؤتمرات والحوار الديمقراطي العميق للبناء الاجتماعي وسيطرة العفوية السياسية في القرارات خلال سنين طويلة، حتى يتم إستنزاف الحزب وهو يواجه نظاماً عسكرياً قوياً ذا جماهير، كما يعرف الرئيس عبدالناصر كيف يحيط نفسه بشعبية متصاعدة نظراً لجرأته في قرارات خطيرة وضعت البلد والمنطقة على فوهة بركان.
وتتماثل البنية السياسية بين عمل عبدالناصر والجماعة الشيوعية، رغم تضادهما، فكلاهما يعمل بشكل تجريبي عفوي، ومن خلال أهداف عامة غامضة، فعبدالناصر يريد التنمية والتطور ومن خلال قيادته، ويشكلُ نظاماً شمولياً ويريد من أرباب العمل أن يساعدوه في خطط التنمية، وبعد هذا الرفض يقوم بالتأميمات فيؤمم المصانع والشركات المنتجة الكبرى ويترك القوى التجارية والعقارية، بدلاً من أن يقوم بالعكس، ويؤدي هذا لتضخم الفساد وضعف التطور الصناعي على المدى البعيد وبقاء الإقطاع في الزراعة.
ولا يقوم الدكتور رفعت السعيد بتحليل هذه البنية الاقتصادية الاجتماعية الناصرية، لكننا نرى أن بنية الحركة الماركسية اليسارية المصرية المنطلقة من تعميق التحرر والديمقراطية، تتخلى عن الجانب الديمقراطي خاصة، فأغلب صفوفها تنبهر بما فعله عبدالناصر من تأميمات من خلال سيطرته على أجهزة الجيش والدولة بدلاً من أن ترفض ذلك، فليست التأميمات سوى قفزة جديدة في النظام الشمولي نحو السيطرة على كافة جوانب المجتمع، بدون كفاءة تحويلية عميقة على المدى البعيد. وهي مجرد سيطرة على مصانع، وليست تحويل لبنية المجتمع، وتغيير وضع الفقراء والأمية ووضع الثقافة المحافظة وسيطرة الرجال على النساء الخ.
ومن هنا فإن التنظيم الماركسي المصري مثل كافة التنظيمات في العالم في ذلك الحين هو جزءٌ من هذه الشمولية والذكورية والثقافة المحافظة بيافطات عامة مضخمة عن الثورة.
لهذا لا يجد فرقاً بينه وبين عبدالناصر حين قام بالتأميمات، ويحسب الاشتراكية عبر الطريقة الروسية البيروقراطية في الحكم. كيف تصنعُ وتطور الإنتاج، وهذا مفيد لكنه ليس الاشتراكية. هي تنمية وطنية مبتورة مشكلة من أعلى. العرب لهم طريق مختلف للحداثة، للرأسمالية التحولية التصنعية المعاصرة التي تعيد تغيير التخلف عبر عقود صبورة، ثم نحو الاشتراكية، مثل كل الأمم وقائدتها الأمم الغربية المتطورة.
يُضمن د. رفعت السعيد في كتابهِ(مجرد ذكريات) في الجزء الثاني وفي الجزء الثالث الأخير الصادر كذلك عن دار المدى سنة 2000، خبرةً تاريخيةً كبيرةً لعملهِ السياسي الصبور الطويل خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وفي حين كان يروي في الجزء الأول كما قلنا كيف تمت مطاردته خلال سنوات، وسجنه المتعدد الأمكنة والأزمنة، فإنه في الجزء الثاني يروي رحلاته وسفراته المتعددة، خاصة في الدول الشرقية(الإشتراكية) والغربية، حيث قاد حركة السلام المصرية مع خالد محي الدين.
هنا ثمة تناقضٌ، فالجزءُ الأولُ كلهُ حصارٌ وقمعٌ وجثومٌ في الزنزاناتِ الضيقةِ التي يتفننُ رفعت السعيد المناضلُ والراوي في وصفها، وفي عرضِ طبيعةِ السجون المتعددة التي حُبس فيها وفي سردِ الجزئياتِ الدرامية المؤلمة والضاحكة كذلك فيها، وعرض الاختلافات السياسية بين التنظيمات الماركسية المصرية والحكم العسكري الناصري المسيطر، في حين لا يذكر الجزءُ الثاني من المذكرات أي شيء كبير عن السجون والأوضاع الداخلية والصراعات العميقة الجارية، في حين يستعرض السفريات والرحلات التي قامَ بها المؤلفُ في طول العالم وعرضه.
هذا التناقضُ يعودُ إلى بدايةِ مقاربةِ الحركاتِ الماركسية المصرية للنظام الناصري وإندماجها فيه، أو إنعزال بعض أفرادها عنه تماماً.
إن الحركةَ التاريخيةَ أظهرتْ مقاربةَ هذه التنظيمات للطموح الدكتاتوري العميق في النظام للسيطرةِ على البنيةِ الاقتصاديةِ الاجتماعية لمصر، بعد أن هيمنَّ على الحراك السياسي ومنع أية قوى أخرى من البروز أو حتى من التواجد الطفيف.
وكان من أخطاءِ الحركات اليسارية خاصة الشيوعية منها التناطح مع النظام العسكري المتنامي والذي كان يريد أن يؤكد سطوته وحضوره وإمتلاكه للنظام في بدءِ ظهوره، هذه المناطحة تجلتْ في المنشورات الكثيفة التي كانت حركة التحرر الوطني الديمقراطي المصرية(حدتو) تبرعُ في كتابتِها وتوزيعها ونقد النظام في عظامه السياسية بها، حتى أنها مرة بعد ضربة (قاصمة) لخلاياها أوصلتْ منشوراتها لملفاتِ الضباط الأحرار الحاكمين المجتمعين في لقائهم الأسبوعي كما يقول المؤلف.
عكستْ حركةُ الضباطِ الأحرارِ والحركات الشيوعية المصرية وحركة الأخوان المسلمين المشروعات الكلية للسيطرة على المجتمع، إنها حركاتٌ دينيةٌ مطلقةٌ تتجسدُ إقتصادياً في تأييدِ وبناء نظام رأسمالية الدولة الشمولية، أو في رفضه كلياً والصراع العنيف معه مثلما فعل الأخوان.
ومن هنا حين وجد الشيوعيون أن عبدالناصر يؤمم المشروعات الصناعية ويشكلُ نظاماً(إشتراكياً) وجدوا إنهم لا يتناقضون معه، ويندمجون في مؤسساتهِ الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة والمستغلة للشعب، ثمة إيجابيات كبيرة هنا في التنمية، لكن رأسمالية الدولة عبر الدكتاتورية تمثلُ قفزةً مغامرةً وتشكل مجتمعاً مشوهاً يدفع ثمناً باهظاً فيما بعد لعدم السماح بالنمو الرأسمالي المتدرج وللصراع معه وتغييره حسب مصالح القوى الاجتماعية المساهمة في قوى العمل والإنتاج والانتخابات.
(ولست – فيما أعتقد- بحاجةٍ إلى استعادة مقولات نظرية تفترض خطأ الانسكاب غير الموضوعي نحو مقولات لم تختبر في الواقع. وأيضاً خطأ مجابهة غير واقعية وإنكار ما حدث من متغيرات، والإكتفاء بترديد عبارات أثبتت الأيام حمقها مثل(رأسمالية الدولة الاحتكارية)، مجرد ذكريات، ص 266، جزء2.
إنه كلامٌ فكري مشوشٌ لصاحبِ تجربةٍ يُفترضُ أنها غنية عميقة، ويجري فيها الخلطُ بين مصطلحي(الاحتكارية)التي تعبرُ عن المجتمعات الرأسمالية الغربية المتطورة، ورأسمالية الدولة في البلدان النامية، كما تعبرُ الفقرةُ عن ضمور التجربة السياسية المباشرة في الخلايا والسجون، التي لم تؤدِ للدرسِ وإكتشاف الواقع، نظراً لارتكازها كذلك على فكرةٍ شموليةٍ خاطئة هي الماركسية –اللينينية، ونتائجها هي الانضمامُ للرأسماليين الحكوميين، باسم الدفاع عن الكادحين، وتعطينا سرديةُ رفعت السعيد كيف راح الرفاق يتصارعون على الفتاتِ المقدم من الدولة ونسوا النضالَ مع الجماهير في الجزء الثاني خاصة.
ومن هنا تغدو مذكرات السفريات والرحلات في بلدان العالم معبرةً عن هذه الذيلية للنظام الرأسمالي الحكومي، فحركةُ السلام لم تقم بتحليل ونقد هذه البلدان المسيطرة على الثروات والجيوش والمنشئة للحروب، فليس لها علاقة عميقة بهذا ومن هنا تبخرتْ سياسياً.
أما الجزءُ الثالثُ من المذكرات للكاتب فأنه عودة للأصل، حيث بدأ السادات يهدمُ نظامَ رأسمالية الدولة الشمولية، ويفتحُ باب حريات معينة مفيدة، ويشكل أخطاءً كبيرة للمجتمع وللأمة من جهةٍ أخرى، ومن الحريات الصغيرة تنشأ التنظيمات المستقلة للقوى الاجتماعية لكن داخل فضاء الدكتاتورية الحكومية، أي من خلال الاتحاد الاشتراكي، ورفعت السعيد كمناضل صبور يستفيد من ذلك ويعود للنضال إلى مع القوى الشعبية لفتح مرحلة جديدة لتطور مصر والعالم العربي الديمقراطي.

 * الدكنور رفعت السعيد ول دفي  (11 أكتوبر 1932 – وتوفي في 17 أغسطس 2017[1) هو سياسي يساري مصري ترأس حزب التجمع خلفًا لخالد محيي الدين. حصل على شهادة الدكتوراه في تاريخ الحركة الشيوعية من ألمانيا وكان نائب سابق في مجلس الشورى المصري. يُعتبر السعيد من الأسماء البارزة في الحركة الشيوعية المصرية منذ أربعينات القرن العشرون وحتى نهاية السبعينات. اعتقل مرات عديدة، كما اعتقل سنة 1978 بعد كتابته مقالا موجها إلى جيهان السادات زوجة الرئيس المصري محمد أنور السادات بعنوان “يا زوجات رؤساء الجمهورية اتحدن”. عرف بمعارضته لجميع الرؤساء الذين حكموا مصر، إلا أن معارضته للرئيس السادات كانت الأكثر جذرية حسب وصفه.
يعتبر السعيد من أشد المعارضين لجماعة الإخوان المسلمين وله العديد من المؤلفات النقدية لحركات الإسلام السياسي، مثل “حسن البنا: متى؟.. كيف؟.. لماذا؟” و”ضد التأسلم”. ويعتقد السعيد أن جماعة الإخوان كانت سببا في خروج اليسار المصري من العملية السياسية نتيجة لما يعتبره قيامها بخلط الدين بالسياسية.وأثناء فترة توليه رئاسة حزب التجمع، تعرض السعيد للانتقاد من قبل مجموعة من أعضاء الحزب، من بينهم عبد الغفار شكر، لما وصفوه من تحول مسار الحزب علي يده من أكبر حزب معارض في مصر أيام الرئيس أنور السادات، إلى حزب صغير مهادن لنظام الرئيس حسني مبارك ومعاد لجماعة الإخوان المسلمين.[وهو ما دفع عدد من المعترضين على الانشقاق وتأسيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي بعيد ثورة 25 يناير 2011..

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961