ـ أسماء محمد مصطفى
ـ لاأريد أن أفقدك ياماكس .
ـ لن تفقديني ياليزل .. ستجدينني دائما في كلماتك .. هناك سأحيا الى الأبد .
*****
ثمة أفلام تؤثر فيك كما تؤثر الكتب ، تثري خيالك وكلماتك ، وفيلم ” سارقة الكتاب The Book Thief” واحد منها ، وهو مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه صدرت في العام 2005 للكاتب الأسترالي ماركوس زوساك ، وكلاهما ـ الفيلم والرواية ـ يحمل رسالة مفادها أنّ للكتب إمكانية إنقاذ الناس ، وللإنسان أن يغير حياته ويتخذ القرارات إذا ماوعى استخدام الكلمات لمصلحة الخير.
إنّ مايشدك للفيلم ، فضلا عما يطرحه من قيم وأخلاقيات عالية وسط عالم مادي يبطش بإنسانية الإنسان ، ومايجعل الدمع يترقرق أكثر أنك قد ترى نفسك وعذاباتك وخساراتك عبر مشاهد سينمائية تشعر بأنك عشت مايشبهها ، لأن الأجهزة القمعية هي نفسها وإن اختلف الزمان والمكان والأشخاص ، ولأنّ الحروب ، وهي ناجمة عن حماقات الطغاة والمنتفعين والتوسعيين ، لاتقتات على سوى الفقراء والمسحوقين وحقهم في الحياة ولاتنتج غير الفراق .
تدور أحداث هذا الفيلم الدرامي الامريكي ـ المنتج عام 2013 في ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية والتي شهدت حملات إحراق الكتب التي تتعارض مع الآيديولوجية النازية ، حيث يسكن تحت سقف واحد زوجان ألمانيان وطفلة شيوعية وشاب يهودي ، في شارع الجنة الذي يقرر الموت زيارته ذات ليلة منبئا بغارة جوية تدمر الحي وتقتل أناسه . الراوي في الفيلم هو الموت ( صوت الممثل والمغني البريطاني روجر آلام ـ مواليد ٢٦ تشرين الاول / أكتوبر ١٩٥٣) ـ الذي قد لايدرك المشاهدون أنه الموت إلاّ بعد زيارته شارع الجنة بهيئة رجل متشح بالسواد ـ وهو يكشف من خلال سرده عن حكم وتأملات فلسفية وعما يجده في قلوب سكنة الحي وهم نائمون على وشك أن يقبض أرواحهم ليرحلوا بصمت الى عالم آخر وسط ضجيج القنابل وانهيار البيوت .
يبدأ الفيلم بصوت الراوي الموت مصاحبا لمشهد قطار يسير مطلقا كماً هائلا من الدخان يغطي الشاشة تماما ليظهر بعده الركاب داخل القطار ، ومن بينهم الطفلة ليزل ـ تقوم بدورها الممثلة الكندية الجميلة والموهوبة صوفي نيلسي ، مواليد 27 آذار / مارس 2000 ـ وشقيقها الصغير ووالدتها ( تقوم بدورها الممثلة الألمانية هايك ماكاتش ـ مواليد 13 آب / اغسطس 1971) ، يموت الطفل في القطار ، ويدفن في الطريق ، ومن ثم تظهر ليزل في سيارة مع امرأة من مؤسسة للرعاية او الصليب الأحمر ، في طريقهما الى عائلة ألمانية أبدت رغبتها بالتبني للحصول على معونة مالية من الدولة ، وتبدو على ليزل مشاعر الحزن بعد أن تخلت عنها والدتها الألمانية الشيوعية مضطرة بسبب ملاحقة النازيين لها ، ولكن ثمة أسئلة بقيت تتردد في قلب ليزل وذهنها من قبيل .. لماذا تخلت عنها والدتها ؟ ألم تعد تحبها ؟ .
تصل ليزل الى شارع الجنة حيث تسكن العائلة الألمانية المكونة من الرجل اللطيف هانس هابرمان ـ الممثل الاسترالي جيوفري راش مواليد 6 تموز / يوليو 1951 ، حائز على جائزتي الأوسكار وإيمي ـ وزوجته المتشنجة روزا هوبيرمان ـ الممثلة الانكليزية إميلي واتسون مواليد 14 كانون الثاني / يناير 1967ـ ، فتجد لديهما الحب الذي يثنيها عن رغبتها بالبحث عن والدتها ، وهناك تتعرف على الطفل رودي ( الممثل الألماني نيكو ليرش ، مواليد 17 تموز / يوليو 2000) الذي يحبها ويصبح صديقها الجدير بالثقة وكاتم أسرارها ، ويتعرض لهما صبي قلبه مليء بالشر ويحب الإساءة اليهما ، وذات ليلة يطرق باب بيت هانس شاب يهودي ، وهو صديقٌ للعائلة ، اسمه ماكس ـ يقوم بدوره الممثل الامريكي بن شنتزر ، مواليد 8 شباط / فبراير 1990 ـ هارباً من عيون السلطات الألمانية التي استهدفت اليهود وحرقتهم بأوامر من هتلر . يستقر ماكس في قبو البيت حيث يجد جدرانه مليئة بالكلمات التي كانت ليزل قد خطتها مسبقا في أثناء تعلمها القراءة والكتابة معتمدة على ماتقرأه من كتب متوفرة في مكتبة بيت المحافظ او رئيس البلدية حيث فتحت زوجته أبوابه لليزل قبل أن يكتشف المحافظ الامر ويقرر منعها من دخول البيت . وهذا يدفع بليزل الشغوفة بالمعرفة الى الدخول للمكتبة خلسة وسرقة الكتب ، لقراءتها ، وكما يقول مؤلف الرواية ” “ليزل تستعيد هذه الكلمات وتسرقها لتكتب باستخدامها في قصة خاصة بها”. ومن خلال هذه السرقة يكشف الفيلم عن قيمة الكتاب والمعرفة لمن يود أن يصنع لنفسه وعيا وحياة ، حيث يستغرب رودي أن ليزل تسرق الكتب بدلا عن الطعام ذلك أنّهما وعائلتهما يعانيان الجوع ، فتبين له أنها لاتسرق الكتب بل تستعيرها بينما لايجوز سرقة الطعام .
وكلما مكث سكان الشارع في الملجأ خلال الغارات كان الأب هانس هابرمان يقوم بالعزف على آلته الموسيقية (الأوركوديون) كي يشغل جيرانه عن هدير الانفجارات وبالتالي ينشغلون عن خوفهم ، بينما يبقى ماكس اليهودي مختبئا في قبو المنزل ، حتى يقرر مغادرة المنزل حفاظاً على العائلة الألمانية من بطش السلطات فيما لو كشفت امر اختبائه ، وهنا تحزن ليزل لأنها فقدت والدتها وشقيقها من قبل ولاتريد فقدان ماكس أيضا . وتقرر السلطات تجنيد هانس عقابا له لأنه اعترض على قيام قوات الامن الألمانية باعتقال أحد جيرانه اليهود ، وهو مشهد يكشف عن شجاعة هانس الذي فضل التمسك باستقلاله الفكري على أن ينتمي للحزب الذي كان سيضمن له المكانة والمال . يصاب هانس في الحرب ويعود بعد مدة الى بيته ، ولاتطول مدة فرح ليزل بلقاء أبيها هانس إذ يقرر الموت زيارة الشارع في ليلة لم تنطلق صفارات الإنذار فيها إذ تضربه الطائرات بموجب دلالات مخطوءة في الخريطة ، ويموت الأب هانس والأم روزا والصديق رودي وبقية سكان الحي بينما تعيش ليزل لأنها نامت في القبو في تلك الليلة بعد أن كتبت كلماتها في دفتر أهداها إياه ماكس من قبل ، وذلك يوم أدرك مقدرتها على صياغة الكلمات فشجعها وحثها على أن تعبر عن الأشياء والأمور بأسلوبها .
يحمل هذا الفيلم الرائع الكثير من الأحداث الحقيقية منها الحرب وحرق الكتب واستهداف اليهود و الشيوعيين وماينجم عن ذلك من يُتم وفراق وفقر وفرار واختباء وسرقة كتب من اجل المعرفة ، وفيه مشاهد واقعية تتداخل مع التمثيلية لتكون النتيجة مشاهد مؤثرة ومنها مشهد اقتياد مجموعة من اليهود من قبل السلطات فتظن ليزل او تتخيل أنّ ماكس بينهم .. تهرع باحثة عنه بينهم ، وتنادي .. ماكس ماكس لن أنساك .. فضلا عن مشهد رؤية ليزل مكان أبيها هانس في الملجأ فارغا بعد تجنيده وهو الذي كان يعزف على آلة (الأوركوديون) ليلهي جيرانه عن الشعور بالخوف ، فتقرر أن تقوم بدوره ولكن من خلال سرد قصة كل ليلة يكونون فيها هناك .
وثمة مشهد مؤثر يتمثل بزيارة الموت للشارع بهيئة رجل متشح بالسواد وكشفه عما يجده في قلب الأب هانس حيث يشعر به يريد أن يعزف معزوفته الأخيرة وهو يفكر بليزل ، بينما تتمنى الأم روزا لو أنها شاركت مشاعرها الحقيقية مع الناس حيث كانت تخبؤها وراء وجه القسوة المفتعلة كجدار دفاعي لاأكثر ، وحين يصل الى الصبي الشرير يقول الموت مامعناه أنه بأخذ روحه يقدم له وللناس خدمة إذ سيخلص قلبه من الشر .. وفي الصباح تنهض ليزل من بين الأنقاض وتفجع بموت أبيها هانس وأمها روزا ، ويموت رودي بين يديها قبل أن يكمل اعترافه بحبه لها .
تعود ليزل وحيدة بعد فقدان أعزائها في شارع الجنة الذي يتحول الى أنقاض ، ولكنها تلتقي ماكس من جديد بعد انتهاء الحرب ، وتستمر صداقتها به الى أن تغادر الحياة وهي في التسعين من عمرها ، وبذلك يختم صوت الراوي الموت رحلة حياة صنعتها ليزل بشغف اكتشاف المعرفة .
في هذا الفيلم المنتج عام 2013 ، أجادت الممثلة الكندية الصاعدة صوفي نيلسي أداء دور ليزل وحازت عليه ثلاث جوائز : أفضل ممثلة ، فئة تحت الأضواء / مهرجان هوليوود السينمائي ، وفئة أفضل أداء من قبل الشباب في دور مساعد أو قيادي ، الإناث / جمعية فينيكس لنقاد السينما ، وجائزة ستايلات لأفضل ممثل قادم .
رشح الفيلم لعدد من الجوائز ، وهو من إخراج : براين بيرسيفال ، إنتاج : كين بلانكاتو ، كارين روسنفيلت ، كتابة وسيناريو : مايكل باتروني ، موسيقى جون ويليامز ، جون ويلسون ، الإيرادات16,797,614 دولار .
وكان الإجماع النقدي لموقع تقييم الأفلام روتن توميتوز( موقع الطماطم الفاسدة ) أنّ : “الفيلم آمن جداً بالنسبة لوقوعه في ألمانيا النازية ، سارقة الكتاب يواجه قيوده بأسلوب محترم وأداء قوي” .
يمثل الفيلم محنة الإنسان في أي مكان تستلب فيه حقوقه وتتحكم في مصيره إرادات السلطات القمعية ومطامعها ، وبالنتيجة هو يدفع الثمن .. هو وحده .. لاشريك له في المأساة .