حسب الله يحيى
يثابر في عمله مثل بندول ساعة.. ويسابق الوقت لإنجازه التقني مهندساً يتقن التعامل مع نبض الضوء والظلام والأدوات الخشنة.. كأنما يريد أن يضيف إلى ساعات الدوام الرسمي ساعات أخر.
كان حريصاً على ادوات عمله، وينتمي إليها كما لو أنها هاجس في عقله وجهده وحبه لها لابوصفها مورد رزقه فحسب، وإنما لأن هذه الادوات كائنات حية، لابد أن يحسن التعامل معها حتى تحقق له مايطلبه منها بالسرعة والإتقان اللذين تتطلبهما طبيعة عمله.
كنت اراقبه، واضبط أوقاتي على دوامه، فيما كان هو يرقبني وزملائي في تحرير مجلات دار الشؤون الثقافية العامة.. يوم كان للثقافة عفتها ومجدها وألقها وموقفها وشخصيتها الوطنية، حيث تخبئ رأيها الحر تارة، وترمز إليه تارة أخرى، خشية الرصد والملاحقة والموت الزؤام.
كان يعمل بتفانٍ، ويقرأ بنهم ويكتب بتأنٍ ونباهة وحذر كذلك.. هذا هو (فيصل عبد الحسن).
يوماً ما افتقدناه، ويوماً آخر سألنا عنه.. وتعددت الإجابات حتى خلص إلينا نبأ رحيله خارج الوطن.
وانطفأت أخباره، ثم راحت تتأرجح بين الاستقرار والتنقل في مدن الغربة.. وكنا نعرف أنه لم يكن محباً لها ولا تواقاً إليها.. ولكن من فرط محبة الوطن.. عبأ الرجل رئتيه من نسائم الوطن ورحل، حتى لايدفع خسارة موقف ، ولا نبض حياة، ولا خذلان إرادة.
وبعد ماكان من مجهول عوالمه، ومحطات سفره التي لاتستقر على موطئ، فوجئنا به يكتب بغزارة هنا وهناك حتى تبيّنا أنه قد استقر في المغرب، وراح يصدر رواياته وكتاباته النقدية في بلدان عربية عدّة.. وباتت (40) عاماً من الكتابة تعطي ثماراً رائعة كأنما يثأر من زمن غادر، ومن غربة حتمها واقع مّر، وراح يسابق الزمن من خلال مؤلفات جادة ومختلفة تقع في صلب الفن الروائي وهو الأكثر غزارة وفي الكتابات النقدية والسير والرحلات.. وكلها تنم عن وعي معرفي وطاقة تعبيرية فذة.
كنا حسدناه على خلاصه من قبضة الجلاد، فيما كان يحسدنا على صبرنا على الأذى في الداخل ..
وعندما احتبس الحنين إلى العراق، عاد إليه وفيه من الآمال الكبار الشيء الكثير، ومن حق سلب منه؛ عودة ميمونة تبارك آماله وامتحان محنته.
وفوجئنا بوجوده في اتحاد الأدباء وشارع المتنبي، وفيه من ثقل الهموم مايصعب حمله، ومن خيبة الرجاء مايرثى له .
لم يكن فيصل عبد الحسن كثير الشكوى، مع علمنا أن غربته لم تكن سهلة ولاعابرة في حياته، بدليل حديثه الجريح عنها في سائر كتاباته.. وفي علمنا نحن الذين على تماس معه، معاناته مع ولد معاق، يحمله معه في حلّه وترحاله، وثقل وجوده وأوجاعه.
فيصل عبد الحسن.. عاد إلى عشه البكر في وزارة الثقافة وسأل عن وجوده في ملفاتها.. فوجدهم قد أضاعوا اسمه من السجلات، وغيبّوا حضوره، وامتد صبره في مراجعات لم يحصد منها إلا الخيبات.. ملف ضائع، وعودة إلى الوظيفة غير ميسور، وتقاعد لايعد إلا بالعقوق والجحود واللا جدوى ومن ثم إلزامه على العيش حد الكفاف في غربة ثقيلة مع ولد معاق وزوجة مهمومة.
فيصل عبد الحسن عاد إلى غربته وهو يتنفس العراق، مع غياب حقه في التمتع بهذه الأنفاس التي يعيش من اجلها. ومع ذلك يصر أن هناك من سوف ينصفه وينظر في أمره ويعلق وجوده بآمال قد يلتفت إليها وزير جاء من بيدر الكلمات، وبالتالي سوف يحس ويدرك أن فيصل عبد الحسن جدير بأن يحيا إنساناً ومبدعاً.. ومن ثم يكون السيد الوزير فرياد راوندزي، قد أطلق للكلمات أجنحتها واعطاها حقها في الوجود والعيش في وطن يحتاج إلى فيصل عبد الحسن وأمثاله في عراق يعاد فيه بناء الإنسان أولاً، ومن ثم العمران ثانياً، وهو يترقب التفاته من به قدر من المسؤولية، ونبع من الإنسانية.