وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

مقالات

الميثاق الاجتماعي العربي:تنازع شرعيتين

عبدالحسين شعبان*

حين يخصص منتدىً فكري ندوة حوارية لخبراء ومفكرين وممارسين عرب لمناقشة فكرة إبرام ميثاق اجتماعي عربي، فهذا يعني استشعار النخبة بضرورة وراهنية المسألة التي تمثل حاجة ماسة وليست ترفاً فكرياً، الميثاق يستهدف إعادة مناقشة وتركيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفقاً لعقد جديد، لاسيما أن العلاقة السابقة اختلّت إلى درجة لم يعد بالإمكان الاستمرار بها بصيغتها القديمة، خصوصاً بعد تصدّع شرعيتها وتآكلها، الأمر الذي يستوجب شكلاً جديداً قائماً على التوافق لتنظيم هذه العلاقة . ومن جهة أخرى فإن الميثاق يسعى أيضاً ليكون مرجعية لتنظيم العلاقة بين المحكومين أنفسهم وفقاً لمبادئ عصرية، تنسجم مع ما توصّلت إليه البشرية عن شكل نظام الحكم، فضلاً عن علاقتهم مع بعضهم، وليس ذلك بعيداً عن الحداثة والعقلانية والمدنية والديمقراطية، دون نسيان إمكانية استلهام ما يتساوق مع مشروع النهضة والتاريخ العربي- الإسلامي، ولكل مجتمع خصوصيته وإن كانت هناك قواعد عامة تعنى بها البشرية وتشكل مشتركاً إنسانياً جامعاً . لعل الاهتمام بمشروع الميثاق استند إلى حوار معلن ومضمر لعقود من الزمان، مسموح وممنوع أحياناً ونعني به معيار شرعية أي نظام، لاسيما وقد طرح الربيع العربي مسألة الشرعية على بساط البحث وعلى نحو حاسم، خصوصاً النزاع بين شرعيتين إحداهما أصبحت محل تآكل وتساؤل وذبول وانحلال، لاسيما بعد أن أطيح بعضها، والثانية لم تولد بعد أو لم تكتمل، وقد صاحبت بعضها مخاضات عسيرة، وهناك معوّقات أو محاولات هيمنة أو تأثيرات إقليمية أو دولية عليها، خصوصاً وقد انشغلت هي باحترابات أهلية أو اقتربت منها، ولم تستطع حتى وإنْ أطاحت الأنظمة تحقيق السلم الاجتماعي، باستمرار حالة الفوضى والعنف وبعض مظاهر عدم الأمن والأمان، التي قد تستمر لفترة أطول .
عاشت المنطقة بعد حصول الدولة العربية المعاصرة على استقلالها ومنذ الخمسينات على تنازع شرعية ثورية مقابل شرعية دستورية حتى وإنْ كان ينقص الأخيرة الكثير من الجوانب الحقوقية، والإنسانية وكانت كلّما توغّلت ما أطلقنا عليه “الشرعية الثورية” كلما انخفض منسوب حكم سيادة القانون، وسادت إجراءات الطوارئ والأحكام العرفية وحصّن الحكام أنفسهم إزاء المساءلة، فضلاً عن تعتّقهم في الحكم، فباتوا آباء الثورة والشرعية في آن، تلك التي لا ينازعهم عليها منازع، سوى رغباتهم وإراداتهم أو إلغائها بإرادات أخرى، تعزف على اللحن الثوري نفسه ولا تريد من المحكومين أن يسمعوا لحناً غيره .
وبقدر ما كان الربيع العربي مفاجأة سارّة للكثيرين، أثار قلقاً مشروعاً حول المستقبل، لاسيما أن غالبية التغييرات التي حصلت في الوطن العربي، ظلّت مفتوحة الاحتمالات، بل صاحبتها بعض المخاوف من قبيل صعود التيار الإسلامي وهيمنته على مقاليد الأمور في ظل اختلال موازين القوى لمصلحته وغياب ميثاق اجتماعي توافقي قانوني وسياسي واقتصادي للمرحلة الانتقالية وللمرحلة التي يمكن أن تليها، خصوصاً لتأسيس أنظمة عصرية جديدة .
لقد أكّد الربيع العربي الذي حمل معه تحديات كبيرة، أن العالم العربي ليس استعصاء مثلما تصوّر البعض، كما أنه ليس استثناء عن سلسلة التحوّلات التي حصلت في العالم، فموجة التغيير الديمقراطي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولاسيما بعد انهيار الفاشية والنازية وإحداث تطور في نظام العلاقات الدولية والقانون الدولي وخصوصاً عند تأسيس الأمم المتحدة، استمرت في التصاعد، حيث شملت بعض دول أوروبا الغربية التي ظلّت بعيدة عن رياح التغيير حتى أواسط السبعينات، مثلما حصل عند إطاحة نظام الدكتاتور سالازار في البرتغال وبعد موت فرانكو الذي حكم إسبانيا بالحديد والنار ما يقارب أربعة عقود من الزمان،  كما أزيح نظام العسكر في اليونان بانقلاب عسكري مهّد للتغيير الديمقراطي، كما جرى في البرتغال .
ولحقت أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات بأوروبا الغربية، لاسيما بعد انهيار جدار برلين في العام 1989 وتهيئة مستلزمات الانتقال الديمقراطي بعد تغيير الأنظمة الشمولية، التي حكمتها منذ الحرب العالمية الثانية، ووصلت تلك الموجة إلى الاتحاد السوفييتي الذي تشكل كنظام بعد الحرب العالمية الأولى بانتصار الثورة الاشتراكية الأولى في العالم عام ،1917 الأمر الذي قاد إلى تفكيكه إلى 15 دولة مثلما تم تفكيك يوغسلافيا إلى 5 بلدان، وانقسمت جمهورية تشيكوسلوفاكيا إلى جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك، والتحقت ألمانيا الديمقراطية بألمانيا الاتحادية، وسارت بولونيا وهنغاريا وبلغاريا في طريق التغيير السلمي السلس وتحوّلت إلى الديمقراطية، في حين اتخذ التغيير العنفي سبيلاً إلى رومانيا .
وإذا كان هناك بعض المعوّقات والعراقيل مثل وجود واستمرار الصراع العربي-” الإسرائيلي”، كتحد خارجي خطر يهدد الكيانات العربية ككل، لاسيما عدوان “إسرائيل” المتكرر وقضمها للأراضي العربية، يضاف إليه وجود النفط كمادة يسيل لها لعاب القوى الدولية المتصارعة، الاّ أن البيئة الداخلية أخذت تنضج بالتدريج ذاتياً وموضوعياً، وقد أسهم الوضع الدولي وخصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية الإجرامية في تهيئة مستلزمات التحوّل الديمقراطي دولياً، الأمر الذي ساعد على ولوج طريق الانتقال الديمقراطي وإن كان بأثمان باهظة أحياناً، حين امتزج بالتدخل الخارجي وخاصة العسكري .
لقد أعاد الحراك الشعبي، الوطن العربي إلى السياسة التي تم النظر إليها باعتبارها حكراً على مجموعة متنفّذة أو فئة متسيّدة أو نخبة متحكّمة، فدفع الملايين من الناس إلى الساحات والشوارع لتدعو إلى شكل جديد لعلاقة الحاكم بالمحكوم، بحيث يستطيع الأخير تغيير الأول على نحو دوري، ولا يستطيع الأول أن يحكم إلاّ برضا الناس الذين من حقهم استبداله، فهم من يحدد ملامح المستقبل، بقبولهم أو رفضهم للحكّام .
وبقدر استعادة السياسة دورها من جانب الناس وهم صنّاعها، فقد أعيد في الوقت نفسه للسياسة بريقها ووهجها، باعتبارها حسب ابن خلدون بحثاً في الخير العام، مثلما كشفت خطل السياسات التقليدية في الحكم والمعارضة التي اعتمدت الإقصاء والتهميش .
ولعل ما شهدته البلدان العربية يترجم بجلاء الآثار الناجمة والخطرة المترتبة على غياب وجود ميثاق يلتزم به الجميع كإطار ناظم أساسه العدالة الاجتماعية والتقدم والرفاه الاجتماعيان، عدا ما يعاني العالم العربي من انكشافات علمية وتكنولوجية وصناعية وثقافية وإعلامية ومعرفية وغذائية وأمنية كبيرة، وهذه كلّها يمكن أن تكون في صلب الميثاق العربي المنشود .
يضاف إلى ذلك الضغوط السكّانية على اختلاف أنواعها وغياب مبدأ المساواة وصعود واستشراء النعرات الطائفية والعنصرية والجهوية والمناطقية والإقليمية، وخصوصاً في ظلّ التنكّر لحقوق المواطنة المتكافئة، ونشوب نزاعات مختلفة قادت إلى تفتيت المجتمعات العربية . كما أن غياب الأمن الإنساني والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والنفسي وعدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي والديني والإثني واللغوي والسلالي، أسهم في انكفاء المجتمعات العربية وأدّى إلى تراجع مسارها في تحقيق ما طرحته فترة ما بعد الاستقلال .
إن تغييب أو عدم الاعتراف بدور “الفضاء الثالث” الرديف والشريك للدولة، ونعني به المجتمع المدني، الذي يمكن أن يتحوّل إلى قوة اقتراح للقوانين والأنظمة ورقيب وراصد على تنفيذها، أسهم في وصول السلطات الحاكمة إلى طريق مسدود، لاسيما بخصوص انغلاق شرعيتها وانزياحها . وبالقدر الذي ازدادت الحاجة إلى الاعتراف بدور المجتمع المدني فإن هذه تعكس الرغبة والضرورة إلى الميثاق الاجتماعي المنشود، ببعده السياسي والديمقراطي، والدستوري والقانوني، والاجتماعي والاقتصادي، والتربوي والبيئي والصحي، للخروج من مأزق المجتمع الريعي، إلى فضاء المجتمع الإنتاجي، ومن مجتمع الاستهلاك إلى مجتمع الإنتاج، وتلك واحدة من أسس التغيير وحقائقه الجديدة، وهو ما كان محلّ نقاش جاد ومسؤول في “منتدى الفكر العربي” في عمّان لنخبة متنوعة المشارب والاتجاهات ومن بلدان عربية مختلفة، توصلت إلى ضرورة دعوة مئة مثقف عربي لمناقشة الفكرة تساوقاً مع أفكار وأطروحات تتعلق بالمشروع النهضوي والقواعد المافوق دستورية أو بالعقد الاجتماعي المنشود.

كاتب ومفكر من العراق

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961