بقلم : علاء اللامي
أن رأس الحربة في النضال ضد هيمنة الإسلام السياسي الشيعي المتحالف استراتيجيا مع واشنطن، والمحمي أمنيا من قبل طهران، ينبغي أن تكون من القوى الديموقراطية الوطنية والرافضة للطائفية والتبعية في الجنوب والوسط، أما القوى الديموقراطية في مناطق العراق الأخرى فلن تكون في إجازة أو استراحة وإنما يجب أن تمارس دورها الحيوي والمهم بالترادف والتنسيق التام مع القوى الديموقراطية في الجنوب والوسط وتغادر منطق احتكار الزعامة الفئوي في المعارضة كما في الحكم. ليست هيمنة الإسلام السياسي الشيعي، ممثلا بالتحالف الوطني، على الحكم في عراق اليوم، وعلى مظاهر الحياة العامة الغارقة في الفوضى وانحسار مظاهر التَمَدْيُن والمعاصرة لصالح سيادة عقلية التحريم والتكفير والإفقار المادي والروحي، ليست موضع خلاف، بل هي واقع قائم وموثق بالأرقام والحيثيات الملموسة.
ومع أن أحداً، من داخل العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال، لا يشكك مباشرة بـ “شرعية” هذا الحكم. فهو، كما يزعم “المتشاركون” فيه، نظام جاء عبر انتخابات تشريعية، ولكنَّ التشكيك يمكن أن يطال الدستور الذي تمت “فبركته” في اجتماعات مغلقة وعبر صفقات سرية من وراء ظهر الرأي العام وبمشاركة خبراء أجانب مرتشين من أشهرهم فيلدمان و غالبريث. ثم أنه دستور مستفتى عليه وفق طريقة النظم الشمولية الفائزة دوما بنسب شبه مطلقة، رغم ما قيل حينها عن تزوير شامل حصل في محافظة نينوى حين كان هذا الدستور على وشك السقوط. معروف أن الدستور ذاته ينص على أنه يسقط في الاستفتاء إذا صوتت ضده غالبية المصوتين في ثلاث محافظات بـ”لا”، بموجب الفقرة الثانية من المادة الرابعة من قانون الاستفتاء والتي جاءت مقتبسة من قانون إدارة الدولة المادة (61) الفقرة(ج) التي سنَّها الحاكم الأميركي بريمر هديةً لحلفائه في الزعامات الكردية الذين أرادوا التسلح بفيتو يمثل محافظاتهم الثلاث ضد محافظات العراق العربية الخمس عشرة و مصادرة إرادتها في نموذج عجيب من ديموقراطية الطوائف والعرقيات! ولولا التزوير في نينوى لسقط الدستور فعلا بعد أن رفضته محافظتا الأنبار بنسبة 99% وصلاح الدين بنسبة 71 غير أن الحزب الإسلامي، الفرع العراقي لحركة الإخوان المسلمين، وبعد أن روَّج للدستور طويلا وشارك في صياغته، حَمَّلَ مسؤولية تمريره للذين “دعوا إلى مقاطعة الاستفتاء فساهموا بشكل مباشر في تمرير الدستور في محافظة نينوى حيث لم تتعدَّ نسبة المشاركة فيها عن 45% فوجّهوا ضربةً قاصمةً للقائلين بلا”.
إنّ التشكيك يطال أيضا قانون وآليات الانتخابات التشريعية و المفوضية المشرفة عليها، والتي كانت تعمل بالتواطؤ المباشر مع سفارة وجيش الاحتلال لدرجةِ أنها سلمت سرا صناديق انتخابية إلى الجيش الأميركي، بشهادة النائبة حنان الفتلاوي في جلسة مجلس النواب المؤرخة في 30 حزيران 2011 والمخصصة لاستجواب رئاسة المفوضية وقد حجب رئيس المجلس، أسامة النجيفي، التسجيل التلفزيوني لمداخلة الفتلاوي وهذا أمر له دلالته الخطيرة.
إن هذه الآليات والقوانين أنتجت برلمانا شبه معين وناقص الشرعية، لم يفزْ فيه عن جدارة، وبعدد معقول من الأصوات إلا عدد قليل جدا من النواب. وقد اعترف أحد قادة قائمة دولة القانون هو الوزير السابق شروان الوائلي بأن ( هذا النظام الانتخابي أوصل بالفعل بعض المرشحين بأصوات لا تتجاوز بضعة مئات، فيما أزيح عن البرلمان مرشحون حصلوا على آلاف الاصوات لأن مجموع أصوات قوائمهم لم يصل للقاسم الانتخابي) . أما الخبير القضائي طارق حرب فقد أوضح أن الأمر لا يتعلق ببعض المرشحين بل بجلِّ الفائزين فيكتب في “البينة الجديدة عدد 1/4/2012” أن العدد الحقيقي للنواب الذين فازوا بأصوات منحها لهم الناخبون لا يتجاوز 17 نائبا، وقد أورد قائمة بأسمائهم وأعداد الأصوات التي حصلوا عليها، أما الآخرون وعددهم 208 نائبا فقد فازوا بفائض الأصوات التي حصلت عليها كياناتهم السياسية! إن الحكم القائم اليوم، مؤسس ومُصَمَّم على المحاصصة الطائفية والعرقية، وهو، بهذا المعنى، نتاج فاسد لفترة الاحتلال، وكان ينبغي أن يعدل تعديلا جذريا يتلائم مع التعديل الجوهري في الظروف الموضوعية. غير أن هذه المؤسسات والآليات والشخصيات السياسية المهيمنة بقيت قائمة فأصبح النظام بمجمله موضع الشك ونقص الشرعية. إن إزالة إفرازات ومنتجات فترة الاحتلال لا يعني قذف البلاد في المجهول، أو الانطلاق من الصفر كما ينادي بعض المتطرفين من الطائفيين وبقايا النظام الشمولي السابق، بل يمكن أن تبدأ بإلحاق الهزيمة السياسية بقوى الإسلام السياسي الشيعي في معاقلها التقليدية في الجنوب والفرات الأوسط عبر نضال شعبي طويل وصبور يستهدف عزلها و إخراج الجماهير الشعبية من هيمنتها وتضليلها وفسادها وإفسادها وتشكيل تحالف ديموقراطي وطني حقيقي يقطع مع فترة الاحتلال والمحاصصة ويقدم للعراقيين أملا جديدا في الخلاص عبر دستور جديد ومعدل جذريا وقانون الانتخابات منصف وديموقراطي حقا!
لقد صممت دوائر الاحتلال تركيبة الحكم القائم اليوم وآلياته التنفيذية وفق ما يعرف بتصميم “المتاهة” التي لا يخرج منها مَن يدخلها، وهي تنتج المزيد من المشاكل والأزمات كلما دارت محركاتها على أرض الواقع. وبهذا فهي تمثل تهديدا مستمرا لسيادة البلاد واستقلالها وأمن شعبها وتبقى سماؤها ملبدة بسحب بجولات الاقتتال والحروب الأهلية الطائفية والقومية. أما هيمنة الإسلام السياسي الشيعي وهي هيمنة ذات محتوى طائفي لا ديموقراطي رغم شعاراتها الوطنية البراقة فهي تضاعف من قوة تلك التهديدات والأخطار وتضع مصير البلد على كف عفريت.
إن جميع الأطراف المشاركة في هذه اللعبة السياسية تتحمل المسؤولية لأنها مشاركة فيها ومنتفعة منها و تواصل ترسيخها رغم المواقف النقدية والمعارضة التي تبديها بعض الأطراف، لكنْ ليس لأسباب مبدئية بل لأخرى تتعلق بحجم حصتها من الامتيازات والسلطات والمناصب والأموال العامة المنهوبة علنا. ومن الجلي أن هيمنة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في التحالف الوطني تمثل الركيزة الأهم لنظام المحاصصة الطائفية العرقية رغم المزاعم اللفظية المعاكسة لبعض أطرافها، وقد تمكنت هذه القوى من الإمساك بأذرع السلطة وآلياتها وتمكنت من بناء قوات عسكرية ضاربة في الجيش والشرطة، إضافة إلى ذلك، وجود شبكة واسعة من المليشيات النائمة و جهاز إعلامي ودعائي فعال يتوسل التحريض الطائفي وإثارة الغزائر والعواطف البدائية ويعتمد البروباغندا الطائفية والبلطجة الشارعية في مواجهة التحركات الاحتجاجية. على هذا، يمكن الاستنتاج أن استمرار هيمنة الإسلام السياسي الشيعي على الحكم مع تقديمه بعض الفتات للشركاء الطائفيين والقوميين سيعني بقاء حكم المحاصصة الطائفية وترسخه، وأن ارتخاء قبضته على الحكم سيعني اقتراب هذا النظام من نهايته واقتراب البديل العراقي الديموقراطي من التجسد. فأي طرف أو قوة يمكنها إنجاز مهمة إنهاء هذه الهيمنة والانتقال بالعراق من نظام المحاصصة الطائفية المتخلف إلى نظام ديموقراطي وطني مستقل فعلا؟ لا جدال في أن هذه المهمة الكبرى بحاجة لجهود جميع القوى العراقية الديموقراطية الرافضة للطائفية والتبعية للأجنبي وهي فعلا مهمة صعبة ولا يمكن إنجازها بجهد من الوطنيين والديموقراطيين في مكون مجتمعي واحد، ولكننا بقراءة الواقع السياسي الاجتماعي الراهن سنصل إلى بعض الخلاصات النوعية التي تجعلنا نعطي بعض الخصوصية لطبيعة القوى المتصدية لحكم المحاصصة الطائفية .
إن أي جهد معارض للهيمنة الإسلام السياسي الشيعي تنطلق من المناطق الغربية والشمالية، ستفسر و تحسب، حقا أو باطلا، ضمن سياق الصراع الطائفي بين السنة والشيعة، الأمر الذي سيثير ردود فعل قوية ضمن حالة الولاء الطائفي لصالح أحزاب الإسلام السياسي الشيعي في معاقلها الجنوبية. ثمَّ أنّ هيمنة القوى المشاركة في العملية السياسية في المناطق الغربية والشمالية لا تقل خطورة عن تلك الموجودة في الجنوب والوسط لسببين: الأول، هو تحالف بعض زعمائها مع القوى الطائفية الداخلية والأجنبية المعادية للعراق. وثانيا، بسبب الدور المدمِّر الذي لعبه ويلعبه الكادر السياسي الذي اتخذته القوى السياسية في المناطق الغربية زعيما لها ونقصد أول رئيس وزراء في عهد الاحتلال إياد علاوي. صحيح أنّ البعض يعتقد بأن علاوي لم يكن خيارا داخليا أو جماهيريا لمكونات قائمة “العراقية” بل كان خيارا أميركيا مفروضا على هذه القوى، ولكن النتيجة تبقى هي ذاتها، فقد أجهضت هذه القوى بمراهنتها على علاوي أي احتمالات لتطوير برنامجها ذي الشعارات والإرهاصات الوطنية باتجاهات ديموقراطية جذرية ففشلت في إنجاز إي انتشار أو ختراق حقيقي في الجنوب والوسط والشمال. وهكذا تحولت “العراقية” من قوة جذب تتبنى الشعار الوطني الديموقراطي بوجه الطائفيين من جميع الطوائف إلى “كتلة سنية بطربوش شيعي” وفق التعبير الإعلامي الشهير،و إلى قوة لتنفير الجماهير من الخيار الوطني يقودها زعيم سياسي فاشل و ممقوت شعبيا وخصوصا في الجنوب، اعترف بلسانه انه كان يتعاون مع ستة عشر جهاز مخابرات أجنبي قبل وصوله إلى السلطة بعد الغزو. وبالمثل سيُفَسَّر أي تحرك ضد هيمنة الإسلام السياسي الشيعي ينطلق من مناطق إقليم كردستان على أنه امتداد للصراع القومي بين العرب والأكراد.
تأسيسا على ما سبق، نعتقد أن رأس الحربة في النضال ضد هيمنة الإسلام السياسي الشيعي المتحالف استراتيجيا مع واشنطن، والمحمي أمنيا من قبل طهران، ينبغي أن تكون من القوى الديموقراطية الوطنية والرافضة للطائفية والتبعية في الجنوب والوسط، أما القوى الديموقراطية في مناطق العراق الأخرى فلن تكون في إجازة أو استراحة وإنما يجب أن تمارس دورها الحيوي والمهم بالترادف والتنسيق التام مع القوى الديموقراطية في الجنوب والوسط وتغادر منطق احتكار الزعامة الفئوي في المعارضة كما في الحكم.