كاظم فنجان الحمامي
نحن نغضب دائما, وتتوتر أعصابنا بسبب الاختناقات المرورية في التقاطعات, لكننا نضع أعصابنا في ثلاجة عندما تتكرر أمام أعيننا المشاهد المؤلمة لظاهرة تسول الأطفال.. في التقاطعات المرورية.
ونغضب أشد الغضب لمنظر امرأة لا ترتدي حجابا, ولا نغضب لمنظر طفل لا يرتدي حذاءً. .
ونغضب كثيراً عندما يفشل مرشحنا في الانتخابات, لكننا لا نغضب ولا ننفعل عندما تتراكم ملفات الفساد فوق رأس ذلك المرشح الحنقبازي, الذي خذلنا, وأساء إلينا, وبصق على نفسه. . نستصعب تسديد ما بذمتنا من ديون, ونستكثر دفع الحد الأدنى لمن يستحق المساعدة من الفقراء والمحتاجين, لكننا نستسهل دفع الرشوة متى ما طلبوا منا ذلك, من دون أن نحتج أو نغضب أو نرفض. . نمارس طقوسنا الدينية في الشوارع العامة ولله الحمد, ونجتهد من مناسبة إلى أخرى في تحسين طقوسنا المتجددة والمستوردة والمخلدة,
لكننا لا نتردد عن إغلاق الشوارع والطرق العامة بكل الأساليب المباحة والمتاحة, ونتمادى في عرقلة سير المركبات, وربما نجبرها على تغيير مسارها, أو نمنعها من الحركة حتى لو كانت المركبة سيارة إسعاف تنقل مصابا إلى المستشفى, أو عربة إطفاء في سباق مع الزمن لإخماد النيران المشتعلة وسط الحي. . نعيش في عصر يهتم فيه بعض أصحاب المواقع العليا بمظهرهم لا بجوهرهم, فنراهم كيف يتلاعبون بتضاريس وجوههم وجباههم, يضعون الأقنعة التنكرية لتغطية ملامحهم الحقيقية, يتخذون ماكياج التدين والوقار الزائف كبطاقات ترانزيت لعبور بوابات النصب والاحتيال, أو لاستغلال سذاجة الناس وطيبتهم, تمهيدا لتحقيق مآربهم الدنيوية, ونيل المناصب والدرجات الرفيعة, فانحصرت أدوات التظاهر الشكلي بحلاقة الشوارب, وإطلاق اللحى, وكي الجباه, والتباهي بتنويع الخواتم الكبيرة والصغيرة, وترديد بعض العبارات المشفرة, والكلمات المنمقة, وإظهار الشدة والصلابة المفتعلة عند التعامل مع عامة الناس, والتمسك بالقشور إلى درجة المبالغة في استعراض صور نمطية منسوخة من قوالب كاريكاتيرية متناظرة, حتى صار من المألوف مشاهدة الكثير من هذه النماذج المتخشبة, من الذين أساءوا للدين والتدين بحركاتهم المصطنعة, يتسترون بالدين, ويتظاهرون بالورع والتقوى, ويستبطنون الكفر والفسوق والعصيان, فاستغلوا الدين وقودا لإشعال فتيل الصراعات السياسية, وتأجيج نيران الفتن الطائفية, واتخذوه جسرا تكتيكيا عبروا فوقه إلى مواقع التسلط, تبرقعوا ببرقع الإيمان المزيف وهم ابعد ما يكونون عن الدين وعن طاعة رب العالمين. . ربما تكون مؤسساتنا الرسمية من أكثر المؤسسات التي يتشدق مدرائها بأحاديث الوعظ والنصح والإرشاد والتحلي بمكارم الأخلاق, والتعامل الحسن مع المراجعين, وربما تكون من أكثر المؤسسات تمسكا بمظاهر الورع والتقوى, حتى يُخيل إليك أنك تعيش في أجواء المجتمع المثالي, وتحلق في فضاءاته المزينة بسحب العفة والنزاهة في الوقت الذي تمارس فيه معظم مؤسساتنا أبشع أساليب الابتزاز والتعامل الجاف مع المراجعين. . نحتل موقع الصدارة بين أقطار كوكب الأرض في استيراد هذا الكم الهائل من أجهزة الهواتف النقالة بشريحة أو بشريحتين, بعدسة أو بعدستين من باب التباهي والوجاهة والإسراف,
فانشغلنا بهواتفنا من الصباح إلى المساء, وتعالت جدران العزلة بيننا, ولم نعد نتحدث مع بعضنا البعض حتى تحت سقف الأسرة التي تجمعنا. .
استوردنا من السيارات الحديثة فوق طاقة شوارعنا الاستيعابية, حتى تكدست عندنا بأعداد وأحجام وموديلات لا تخطر على بال الجن الأزرق, لكننا لم نفكر في يوم من الأيام ببناء معملا واحدا لإنتاج قطع الغيار, ولم نخطط لتصنيع بعض الأجزاء الصغيرة في السيارة كالمصابيح والإكسسوارات الخارجية والمقاعد الداخلية. . عندما نسافر خارج البلاد نتصرف وكأننا ملائكة غادرت أسوار المدينة الفاضلة لنعلن للعالم عن التزامنا الروحي والأخلاقي بالأعراف والأنظمة والقوانين المرعية في البلدان التي نزورها, لكننا سرعان ما ننقلب على أنفسنا ونعلن تمردنا على كل الأعراف والتقاليد والأنظمة حالما نعود إلى بلادنا, فنلجأ إلى ممارسة هواياتنا الفوضوية في البيت والسوق ومكان العمل, ويحلو لبعضنا العودة إلى العصور البدائية عندما يتبجح بانتماءاته العشائرية المتحجرة. . .
· ليس المهم ما نحمله من ذكاء ومواهب ومهارات ومؤهلات وقدرات علمية وإدارية ومهنية حتى نتبوأ المراكز التي تليق بمؤهلاتنا الأكاديمية والمهنية, المهم هو كيف نستفيد من ذكائك في التسلل إلى تنظيمات الأحزاب المتنفذة حتى نمتطي خيول المحاصصة, فنجمح بها كيفما نشاء لنتغلب على من هم أكفأ منا, وأفضل منا, وأقدم منا, وأنزه منا. فالغاية تبرر الوسيلة في معظم هياكل شركاتنا ومؤسساتنا, وبات باستطاعتنا تحقيق المزيد من القفزات الإدارية في غابات المناصب الزئبقية, التي أصبحت متاحة الآن لمن يريد التقدم على حساب غيره في هذه الفوضى الإدارية العارمة, التي اجتاحت مدننا وأريافنا, بعدما فجرتها النزعات الطائفية والمذهبية والقومية والعشائرية والتنظيمية.