عبد الكريم العامري*
في المقهى الذي كثرما اجلس فيه، قال محدثي وهو رجل جاوز عمره الستين، انه يشعر بسعادة بالغة حين حقق الله له حلمه بعد صبر طويل، وبفضول الصحفي حاولت ان استل منه بضع كلمات لاعرف ذاك الحلم الذي تحقق له، في البدء كنت اظن ان ابناً له تم تعيينه في احدى دوائر الحكومة او ربما حصل على راتباً تقاعدياً يعينه على معيشته، لكن الرجل راح يذكر مزايا حلمه وكيف يحمل الضدين، مرن وقوي،
حتى اضاع مني الفرصة في التوقع.. وبعد جهد وحديث طويل قال: حصلت على (عربانة) أحصل منها على رزقي!
اذن، هذا هو الحلم الذي تحقق له وهو يحمد الله ليلاً ونهاراً لأنه لم يمد يداً لأحد..هذا هو أقصى ما يحلم به عراقي يعيش في بلدٍ متخمٍ بالخيرات التي منَّ الله بها عليه.
الحلم العراقي، يا سادتي، بسيط جداً، شبيه بحلم محدثي الستيني، العراقي لا يمدّ قدميه اطول من غطائه (كما يقول المثل الشعبي)، فهو لا يطلب الا حقه في العيش بأدنى صوره، ولا يطلب الا حياةً آمنةً لا يعكر صفوها أحد، وهو حلم آباؤنا من قبل وربما اجدادنا ايضاً اذا ما توغلنا في الماضي، وهو حلمنا اليوم بعدما أصابنا اليأس بفقدان تلك الأواصر التي تجمع المحلة الواحدة.. ولهذا فالعراقي يترحّم على أيام زمان، ايام كان فيها الحي عائلة واحدة، والجار يعرف حقوق الجيرة، يوم كان صغيرنا يحترم الكبير، وكان التسامح والمحبة والألفة تلف الجميع، يوم كان المرء يسأل عن الجار قبل الدار، ويسأل عن الصديق قبل الطريق، يوم لم تنم عائلة بجوعها بينما يتخم الآخرون، تلك هي الأيام التي أضحت حكايا يرددها الناس ويترحمون عليها.
كل شيء يكبر في الدنيا الا حلم العراقي، فهو بحجم القلب، لكنه وبفعل الظروف، احياناً، لا يتحقق.. واذا ما تحقق فيأتي بطيئاً خجولاً..
قناعة العراقيين ورضاهم جعلت من أحلامهم صغيرة، فحريٌّ باولي الأمر أن يراعوا ذلك، فبذرة العراقي مجبولة على عزّةٍ وكبرياء، فهو لا يطلب الا ان كانت هناك حاجة، وحتى هذه تكون صغيرة وسهلة التحقق.. فكيف نصف شعباً يعيش بأدنى الخدمات لكنه مقتنع بعيشه ولو على مضض، وكيف نصف شعباً كثير منه يبحث عن خبزٍ حلالٍ ولا يحصل عليه الا بشقِّ الأنفس، لا أجد مفردة في قواميس اللغة تليق بوصف العراقي مثلما لا اجد مفردة تليق بوصف حلمه.
* كاتب وصحافي عراقي