سعد الدين ابراهيم :
شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن، فى منتصف شهر يونيو، مؤتمراً نظمه مركز ابن خلدون، وجبهة تحرير عرب الأحواز. وربما سمع القارئ لهذا المقال عن مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، والذى يتخذ من القاهرة مقراً لأمانته العامة، وهو أول وأقدم منظمات المجتمع المدنى، التى ناضلت طوال العقود الأربعة الأخيرة من أجل حقوق الإنسان عموماً، وحقوق الأقليات خصوصاً، سواء فى مصر، أو الوطن العربى، أو فى العالم.لذلك لم يكن غريباً، أن استنجدت أقلية عربية، تعيش فى إيران، بمركز ابن خلدون، ليتبنى قضية أبنائها، الذين يصل عددهم إلى حوالى عشرة ملايين نسمة ـ أى أكبر من سُكان عدة بُلدان عربية ـ خمسة منها فى الخليج العربى، واثنان منها على شاطئ البحر الأحمر (جيبوتى)، والمحيط الأطلنطى (موريتانيا). ولم يكن بوسعنا، والأمر كذلك، إلا الاستجابة لاستغاثة هؤلاء العرب، الذين نسيتهم أمّتهم، وجامعتهم العربية.
فما هى قضية هؤلاء الملايين العشرة من العرب الأحواز؟
لقد سمع أو درس المُهتمون بالشأن العام، عن اتفاقيات الدول الاستعمارية، لاقتسام الأقاليم العربية للإمبراطورية العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918). من ذلك أن بريطانيا وعدت اليهود الغربيين، ممثلين بالمنظمة الصهيونية، بتسهيل إقامة وطن قومى لهم، على أرض فلسطين. بينما تترك سوريا ولبنان للهيمنة الفرنسية، والعِراق والأردن ومشيخات الخليج للهيمنة البريطانية. هذا فضلاً عن أن بريطانيا كانت بالفعل تحتل مصر والسودان وعدن، منذ أواخر القرن التاسع عشر.أما الذى لم نتعلمه فى مدارسنا وجامعاتنا المصرية والعربية، فهو أن إحدى صفقات ما بعد الحرب العالمية الأولى، كانت سلخ شُرفة كُبرى من الإقليم العِراقى، الذى كان تحت الحماية البريطانية، وإعطاءه لشاه إيران، رضا بهلوى. وذلك مُقابل حصول بريطانيا على امتياز التنقيب عن النفط، واستخراجه، وتكريره، على الجانب الشرقى من الخليج، وحول مدينة عبدان، التى هى قلب إقليم الأحواز، الذى كانت تقطنه القبائل العربية منذ القرن العاشر الميلادى.ورفضت تلك القبائل تبعيتها لبلاد الفُرس، وقاومت السُلطة الفارسية ـ الإيرانية لعدة سنوات، إلى أن قُهرت بالقوة المُشتركة لكل من الشاه رضا بهلوى وبريطانيا. وإمعاناً فى تأكيد الوضع الجديد، وإذلال تلك القبائل، تم القبض على أكبر زُعمائها، وهو الشيخ عبدالله خزعل، وإعدامه، فى مشهد لم يختلف كثيراً عما فعله الفرنسيون مع الأمير عبدالقادر الجزائرى، فى القرن السابق، أو ما فعله الإيطاليون مع المُجاهد الليبى عُمر المُختار، فى عشرينيات القرن العشرين، أو كان البريطانيون أنفسهم قد فعلوه مع الفلاحين المصريين فى دنشواى.
وعودة إلى عرب الأحواز فى إيران، الذين لم تتوقف مُعاناتهم بإجبارهم على التبعية الوطنية لسُلطة غريبة عنهم، ولكن أيضاً لقهرهم ثقافياً. فقد أنكرت عليهم السُلطة الإيرانية الجديدة، الاستمرار فى تعليم واستخدام لُغة أمهاتهم وآبائهم، وهى اللغة العربية، كما حرّمت عليهم ارتداء الأزياء العربية التى كانت شائعة فى كل من العِراق، والجانب الغربى من الخليج، وهو الجزيرة العربية (الكويت، والسعودية، والبحرين، وقطر، والإمارات، وسلطة عُمان). وأكثر من ذلك لم تعترف السُلطات الفارسية، لمدة نصف قرن، إلا بخمسة أسماء فى شهادات الميلاد الجديدة لعرب الأحواز، وهى محمد، وعلى، وحسن، والحُسين، وجعفر!.لقد كان القصد هو امتهان، إن لم يكن القضاء على، الهوية العربية لقبائل الأحواز. ولكن تلك القبائل قاومت ببسالة مُنقطعة النظير، كل تلك المُحاولات إلا قليلاً.
بل نجح أبناء الجيل الرابع من الأحواز، الذين أفلتوا من القبضة الحديدية الفارسية، ودرسوا أو هاجروا خارج إيران، فى أن يؤسّسوا روابط وجمعيات ومنظمات حقوقية، تدافع عن أهلهم فى إيران، وتطبق المواثيق الدولية عليهم، وفى مقدمتها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والعهد الدولى لحماية السُكان الأصليين.
وقد تشرّفت بالمُشاركة فى تلك الحملات الحقوقية الإنسانية للعرب الأحواز فى إيران. فحضرت أحد مؤتمراتهم المُبكرة الذى استضافته العاصمة الدنماركية، كوبنهاجن منذ عام مضى (2015)، ومؤتمرا ثانيا فى مدينة جنيف السويسرية فى أوائل هذا العام (2016)، كما شارك مركز ابن خلدون مع جبهة تحرير عرب الأحواز، فى تنظيم مؤتمر ثالث، فى العاصمة واشنطن، فى منتصف يونيو 2016، وحضره لفيف من النُشطاء الأمريكيين، ومُمثلون من أعضاء الكونجرس، والأكاديميون المتخصصون فى الشؤون الإيرانية خاصة، وشؤون الشرق الأوسط والإسلام عامة. والجديد الذى تعلمناه فى المؤتمر الأخير، هو أن إيران من أكثر بُلدان العالم تنوعاً، عِرقياً ودينياً، وأن المجموعة الفارسية المُهيمنة على المقاليد الإيرانية لا تتجاوز نسبتها أربعين فى المائة، وأن الأغلبية تضم عشر مجموعات بشرية تشمل: الأحواز العرب، والأكراد، والتركمان، والآذاريين (نسبة إلى أذربيجان فى أواسط آسيا)، والبلوش (نسبة إلى بلوخستان)، والأرمن، والزرادشتان (الذين يُقدسون النار)، والراشتان (ذوى الأصول الروسية، ويسكنون على السواحل الشمالية الغربية لبحر قزوين)، والمسيحيين (من الطوائف الثلاث الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية).بل إن أقلية إضافية قد نشأت وتوطدت فى العقود الثلاثة الأخيرة، وهى الأقلية «الأفغانية»، أو التى تكوّنت من الأفغان الذين فرّوا من أفغانستان فى سبعينيات القرن العشرين، نتيجة الغزو السوفيتى لأفغانستان، دعماً لانقلاب شيوعى على النظام الملكى الحاكم (الملك طاهر شاه)، فى ذلك الوقت، والذى رحّبت به حكومة الشاه محمد رضا بهلوى، إمبراطور إيران فى ذلك الوقت، والذى كان هو نفسه مُعادياً للشيوعية وداعماً للملكية فى الجارة الأفغانية. وكان الاعتقاد السائد، حينئذ، هو أن إقامة اللاجئين الأفغان فى إيران ستكون مؤقتة. ولكن الشاهد هو أن تلك الإقامة قد قاربت نصف قرن ـ أى ما يوازى جيلين. وهو ما انطوى على ترسيخ جذور تلك الأقلية الوافدة الجديدة، والتى أضافت إلى التنوع العِرقى واللغوى والطائفى (حيث إن معظم هؤلاء الأفغان مسلمون من الطائفة السُنّية، ويعيشون الآن وسط الأغلبية الشيعية). خُلاصة القول، أن هذا التنوع البشرى فى إيران، كان يمكن أن يكون مصدر قوة وإبداع إيران، لو أن القائمين على أمور ذلك البلد كانوا أكثر عدلاً وإنصافاً فى إدارتهم للشأن العام. ولكن الشاهد، وما أكده المُتحدثون الذين حضروا مؤتمر واشنطن (14-15 يونيو 2016)، قد اشتكوا مُرّ الشكوى من المُعاملة التمييزية المُتعالية من الجماعة الفارسية المُهيمنة على مقاليد الأمور.
بل أشار عدد من المُتحدثين فى المؤتمر، إلى أن هذا الصلف الفارسى، قد استمر عبر عدة قرون، رغم تغير النُخبة الحاكمة ـ من إيران الصفوية، إلى إيران الشاهنشاهية، إلى إيران الخومينية- وأن ذلك هو الذى يُفسر نزعة النظام الحاكم فى اختراق بُلدان الجِوار، ومُحاولة السيطرة عليها. وها هو واقع الحال فى القرن الحادى والعشرين، وقد اخترقت إيران بالفعل أربعة بُلدان عربية، هى العِراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. وها هى تُحاول اختراق كل من البحرين والسعودية، وبقية بُلدان الخليج. وارتفعت الأصوات فى مؤتمر واشنطن، حول تحدى التعددية فى إيران، إلى أهمية العمل على احتواء إيران، وتقليم نزعتها الطائفية التوسعية.وقد طالب المُشاركون فى مؤتمر واشنطن، بضرورة توعية الرأى العام العربى، بمؤتمر حاشد أكبر فى القاهرة، التى كانت ولا تزال قلب العروبة النابض، وذراعها الصلب، وقد وعدنا، نحن المصريين المُشاركين فى مؤتمر واشنطن، بمُحاولة تنظيم المؤتمر الرابع بالقاهرة، فى نهاية عام 2016.
اللهم فاشهد..
وعلى الله قصد السبيل.
semibrahim@gmail.com
المصدر / موقع المصري اليوم