وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

أهم الأخبار مقابلات

طرائف وأسرار من حياة العلامة الوردي في حوار مع سلام الشماع

أجرت الحوار ـ باهرة الشيخلي:

يحتفظ الكاتب والصحفي العراقي سلام الشماع بأسرار كثيرة ووثائق مهمة وخطيرة عن عالم الاجتماع الكبير الدكتور علي الوردي، ربما لا يمتلك أقلها أحد بحكم مرافقته له.
والمعلومات التي يدلي بها الشماع في حواراته تثير الجدل… والسبب أنه رأى في الوردي جوانب لا يعرفها الكثير وينقل عنه حتى الأحاديث التي جرت بصفة خاصة بينهما.
وبعد ذلك فالشماع أصدر لحد الآن ثلاثة كتب أحدهما طبع للمرة الثالثة،

وهذه الكتب هي : من وحي الثمانين الذي صدرت طبعته الأولى بعد سنة من وفاة الوردي، أي في العام 1996، والثاني هو (الدكتور علي الوردي.. مجالسه ومعاركه الفكرية)، والثالث هو (الازدواجية المسقطة) الذي كان مشتركاً بينه وبين الدكتور حسين سرمك الباحث والناقد العراقي المعروف.

ولنبدأ مع  سلام  الشماع الآن:
* يقال أن الوردي تتلمذ على يدي الدكتور مصطفى جواد هل هذا صحيح؟
ـ نعم.. والدكتور (مصطفى جواد) هو الذي غيّر لقبه من (آل أبي الورد) إلى (الوردي) إذ قال له إنّ النسب إلى الورد هو الوردي.

وهنا انشقت العائلة، فمنها من غيّر لقبه إلى (الوردي) ومنها من بقي على لقب (الورد) ومنهم العلامة الراحل الدكتور (عبد الأمير الورد) وهو ابن عمّ (الوردي).

واحتفظ الوردي بعلاقة حميمة بأستاذه (مصطفى جواد) وكان يبعث له الرسائل بصفة مستمرة من الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما عاد من أمريكا اشترك مع أستاذه في برنامج تلفزيوني كان يقدمـه (سالم الآلوسي). ومن الملاحظات الطريفة عن هذا البرنامج ما ذكره لي الدكتور النفساني علي كمال من إشارة إلى أن مسبحة (جواد) كانت ذات حبّات كبيرة تصدر عند تصادمها أصواتاً حادة تجذب الناس إلى شخصيته فيواظبون على سماع أحاديثه على الرغم من أنها بالفصحى، لكن أسلوبه في الكتابة وجرأته في طرح أفكاره هو ما جذب الناس إليه. في حين كانت حبات مسبحة الوردي صغيرة ويحركها بهدوء ولا تصدر أي صوت.
* على ذكر أمريكا، ما الذي حصل للوردي فيها؟
ـ حصل له شيء عجيب. فقد تغيّر كلياً، وعاد بمفاهيم جديدة تماماً ومغايرة لما ذهب به.

لقد تعرض لصدمة شاملة وشديدة. كان منذهلاً جداً وهو يلاحظ النهضة التكنولوجية هناك، وتجسد هذا الانسحار والاندهاش في رسائله التي بعث بها إلى صديقه النحات (خليل الورد) وهو من جيل (جواد سليم)، وهي الرسائل التي حصلت عليها من عائلة المرحوم خليل الورد وأعكف على إصدارها في كتاب، على الرغم من أن ذلك مهمة عسيرة في ظروف الغربة.

كان الوردي يتحدث في رسائله عن الأعاجيب والمعجزات. يقول له: أنت لا تمشي في الشارع، بل الشارع يمشي بك إشارة إلى الأحزمة المتحركة والسلالم الكهربائية.. وكيف يستعملون المناديل الورقية بدلاً من القماشية.. ولكنني أعتقد أن الصدمة الأهم كانت في مجال المفاهيم والقيم الاجتماعية.
* كيف؟
ـ لنأخذ مثلاً موضوعة (الشرف) الخطيرة في مجتمعنا إذ نجد أنها مرتبطة بعفّة المرأة عموماً، في الشارع الذي سكن فيه في نيويورك كان السكان من الأمريكيين يحبونه ويحترمونه ويتقربون منه، لكنه لاحظ أن هناك امرأة تحاول التقرب منه إلا أنها لا تستطيع لأنها منبوذة ومعزولة ولا أحد يكلمها من سكان الشارع.

فبادر هو إلى الحديث معها بعد السلام عليها لكنه لاحظ بعد ذلك أن الأهالي نفروا منه وبدأوا بالابتعاد عنه، ولم يعودوا يحبونه ولا يسلمون عليه، وعندما سألهم عن السبب؟ قالوا له: لقد تحدثت مع هذه الامرأة وهي ليست شريفة. وعندما سألهم عن سبب كونها غير شريفة، قالوا له إنّها كانت تشعل شمعة أثناء ساعات التعتيم في الحرب العالمية الثانية!!
* وهو الذي عاش في مجتمع يربط شرف المرأة ببكارتها؟
ـ ليس هذا فقط، كانت صاحبة البيت التي سكن عندها الوردي وقت وصوله إلى الولايات المتحدة تشكو له من كون ابنتها محرومة جنسياً لأنها بدينة ولا أحد يصادقها.
تصوّري ما الذي حصل للوردي وهو يستمع إلى معاناة هذه الأم (المسكينة!!). لقد تغيّر تماماً.

* انطلقت حرب شعواء على الوردي واتهموه بأنه: عميل أمريكي، عميل بريطاني، ماسوني، شيوعي، شيعي، سنّي..
ـ صحيح فلم يتعرض مفكر في العراق لاتهامات عجيبة ومتناقضة مثل الوردي.. لقد وُصف أولاً بأنه عميل أمريكي.. ولهذا حادثة طريفة.


* ما هي؟
ـ في إحدى المحاضرات في منتدى الكاظمية كان الوردي يتحدث عن جوانب سلبية في حياة المجتمع العراقي، فوقف المحامي (أنور السامرائي) وكان صاحب صوت جهوري وصاح بعصبية: أسكتوه – أي أسكتوا الوردي – هذا عميل أمريكي ورقم إضبارته في المخابرات هو (7). حاول بعض الحاضرين الرد على نزق المحامي بقسوة لكن الوردي منعهم وقال بهدوء: إخوان. أنا صحيح جاسوس أمريكي كما يقول الأخ (أنور)، وقد فضحني وأحرجني معكم، ولكن رقم إضبارتي ليس (7)، بل (6)، ولكني لا أعتب عليه وإنما أعتب على الحكومة التي تكشف عملاءها وجواسيسها بسهولة. وأشار بأصبعه إلى أنور السامرائي.
* أي واجه الموقف بسخرية..
• ـ طبعاً وهذا هو ديدنه. أمّا عن تهمة (شيوعي) فلها واحدة من الحوادث الطريفة.: كان هناك قيادي شيوعي – عضو لجنة محلية – اسمه (علي حسين الوردي) وهو يطابق تماماً اسم الوردي، هذا الشخص قدّم اعترافات كاملة في التلفزيون عام 1963، يقول الوردي أنه مر في مقهى أثناء عرض الاعترافات في التلفزيون فسمعت أحدهم يقول لصاحبه بصوت عال: أنظر إلى هذا الكلب كيف يريد أن يخدعنا. فأجابه صديقه: لكن هذا – يقصد القيادي الشيوعي – ضعيف، وذاك – الوردي – سمين. فقال صاحبه محتداً: “إي غير بسبب البسط” (أي بسبب التعذيب).
* على ذكر تهمة (الشيوعية) هل كان الوردي ملحداً؟
ـ كلاّ. لكن آراءه الحادة التي امتدت لتواجه الفهم التقليدي للدين ودعواته المتحضرة في مجتمع محافظ هي التي دفعت بعض الناس للاعتقاد بأنه ملحد. وأنا الآن أشتغل على كتاب عن (نقد الفكر الماركسي) من وجهة نظر الوردي، وسيجد الناس أن للوردي اعتراضات جوهرية على الفكر الماركسي.
* لكن هل كان الوردي ملتزماً من الناحية الدينية؟
ـ بصراحة، هذا سؤال مربك.. لأنني أجد الوردي متناقضاً في هذا المجال.. فأنا لم أسمع منه كلمة (صلاة) إلا ما يخص الصلاة التي يصفها بأنها (صلاة الصوفية) والتي يؤديها وهو يمشي على جسر الأئمة عند الغروب.. وحين كنا نحضر بعض المآتم ونبدأ بقراءة سورة الفاتحة كان هو لا يقرأ السورة بل يردّد بعض الكلمات الغريبة غير المفهومة.. وحتى عندما جاء معي هو والدكتور (حسين علي محفوظ) كخبيرين للشهادة في القضية التي رفعها ضدي وزير التربية عبد القادر عز الدين أواخر الثمانينات وطلبت منه السيّدة القاضية بأن يضع يده على القرآن ويقسم بأن يبدي رأيه كخبير مؤتمن كان يطلق مثل تلك الكلمات وحين اعترضت القاضية قال لها: أناّ أردّد القسم في داخلي!! من ناحية ثانية كانت لدى الوردي لازمة مهمة وذلك حين يتعرض لمواقف معينة حين يردّد بصوت مسموع وبترتيل واضح “بسم الله الرحمن الرحيم* والضحى* والليل إذا سجى*ما ودعك ربك وما قلى”.

كما أن الدكتور «عبد الأمير الورد” ذكر في المقدّمة التي كتبها لكتابي “من وحي الثمانين” أنّ الوردي الذي يعرفه لم تكن له علاقة بالالتزام الديني اليومي، الصلاة والصوم أو غيرها. أمّا علي الوردي الذي وجده – ويقصد به الوردي في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاته –

فقد كان يؤدي الخمس بأوقاتها ويستعين بقراءة الأوراد والأدعية. لكنني شخصياً لا أستطيع تأكيد هذا الرأي، إلا أن ما أستطيع أن أؤكده هو أنه كان يشعر بالندم وبالذنب إذ اعترف لي في اللقاء التلفزيوني الأخير الذي أجريته له في قناة تلفزيون بغداد الثقافية آنذاك بأنه يعدّ نفسه مخطئاً ولو مدّ الله في عمره لحاول التراجع عن كثير مما أثبته في كتبه، وكان من بين الذين حضروا إجراء اللقاء التلفزيوني الدكتور (حسين علي محفوظ) والصحفي (مؤيـد عبـد القـادر) والسيّد (حيدر الصدر) والمرحوم الباحث (عباس علي) والدكتور (عبد السلام رؤوف) والسيّد (عبد المطلب الأعرجي). وأتذكر أنه ردّد مع نفسه – في نهاية البرنامج- جملة خطيرة إذ قال هامساً: “بأي وجه سوف أقابل ربي”!!
* لكن علماء الدين كانوا يهاجمونه على المنابر..
ـ نعم.. بعضهم كان يقول: “المفسدات ثلاث: الميسر والخمر وأفكار علي الوردي”.. وحاول بعض الناس الاعتداء عليه جسدياً.. كما فكر بعضهم في قتله بعد صدور كتابه «وعاظ السلاطين”..
* وهل كفّروه حقاً؟
ـ نعم. وهنا يبرز دور الإمام المجاهد “محمد محمد مهدي الخالصي” كرجل دين غيور ومتنور في حسم هذه المعضلة الخطيرة… إذ أخبرني الشيخ (جواد الخالصي) نجل الإمام المجاهد أن جماعة من العلماء كفّروا الوردي وأقاموا عليه الدنيا ولم يقعدوها. فأرسل الإمام المجاهد بطلبهم للاجتماع بالوردي أمامه للمناظرة قائلاً لهم: “إنكم تدخلون الخرافات إلى الدين وعندما ينتقدكم أحدهم تثورون عليه، فلا تدخلوا الخرافات لئلا ينتقدكم أحد”. وحصلت هذه المناظرة فعلاً التي سمّيت (مناظرة التكفير).

وتحدث فيها الوردي طويلاً وانتصر على من كفّره. وعند انتهاء المناظرة أرسل الخالصي مع الوردي من يوصله إلى بيته حماية له من أي اعتداء قد يتعرض له في الطريق، ويقول الشيخ جواد الخالصي إنّ أخاه الشيخ محمد محمد مهدي كان من جملة من رافق الوردي في ذلك اليوم.
* وهل بقيت تهمة أخرى بعد التكفير؟
ـ نعم، لقد اتهم الوردي بأنه فارسي في حين أنه من عائلة حجازية عربية مؤصّلة. لقد قال عنه صاحب كتاب “في الأدب وما إليه”: “وحسب اعتقادي ينتمي الوردي إلى جيل طازج من المهاجرين الفرس إلى العراق”. وردّ الدكتور (الورد) على هذه التهمة وسفهها وفنّدها تماماً في مقدّمته لكتابي “من وحي الثمانين” في طبعته الثانية والثالثة.

ولكنني عشت مع الوردي حادثة مهمة ترتبط بهذه التهمة. ففي أثناء الحرب العراقية الإيرانية طلب منّي الوردي مرافقته إلى مديرية الجوازات لتجديد جواز سفره. وعندما دخلنا إلى غرفة الضابط المسؤول وجدنا عنده مجموعة من النساء فحاول هذا الضابط الاستخفاف بالوردي.. فأمسك بالجواز وبدأ يهزه ويقول: “أنتم بيت الوردي ما هو أصلكم؟ هل أنتم تبعية لكي نسفّركم؟ من أين أنتم؟” فأجابه الوردي بهدوء قائلاً: “والله نحن من الحجاز ولكن تورطنا وجئنا إلى العراق”!!
* لم تبقَ جهة لم تهاجمه؟
ـ تصوّر أن بسطاء الناس ورعاعهم كانوا ينسجون أوهاماً حول الوردي. ذات مرّة دخل إلى المقهى فأراد أحد الأشخاص النهوض لتحيته فسحبه صاحبه ومنعه من القيام قائلاً: “هذا فاسد.. شاهدته في (دروازه قزيني) – أي المبغى العام – في طهران. فقال له صاحبه: “يجوز أنه ذهب للدراسة. فردّ عليه الأول غاضباً: أقول لك لقد رأيته بالكلّجية وتقول لي إنه يدرس بالكلّية..
* لكن أناساً في الوسط العلمي الذي من المفترض أن يحتضنه ويعمل لمساندته هاجموه وحاربوه.. فكيف نفسر هذا؟
ـ لقد خلق الوردي ما يشبه الهزة الأرضية الثقافية إذا جاز التعبير آنذاك.. وكان جانب من تأثيرات أفكاره هو أنها كشفت وعرّت الكثيرين من الذين سخّروا علومهم لمساندة السلطان الجائر وتحجيم وعي الناس وتزييف الحقائق وليّ أعناقها..

تصوّري أنهم رفعوا في كلية الآداب قسم الاجتماع حتى المنضدة الخاصة به إذ هناك تقليد في جامعة بغداد في أن يكون هناك امتياز لمن هو بدرجة (أستاذ متمرس) وهو أن لا ترفع منضدته من القسم الذي كان يدّرس فيه ولا يشغلها أحد بعد تقاعده، فهي متروكة له يستطيع أن يستخدمها متى أراد كنوع من التكريم والتقدير لخدماته العلمية.

كما لم تتم دعوة الوردي إلى أي ندوة أو اجتماع يُدعى إليه غيره من الأساتذة المتمرسين.

ولو قرأت الرسالة التي وجهها الوردي إلى رئيس جامعة بغداد آنذاك (الدكتور طه تايه النعيمي) في 14/9/1989 والتي نشرت نصها مكتوباً بخط يد الوردي نفسه في كتابي لقطّع قلبك الأسلوب وطريقة عرض الشكوى وبصفة خاصة في خاتمتها: “سيّدي رئيس الجامعة.. إني لا يهمني أن أكون أستاذاً متمرساً أو متقاعداً، فهما سيّان في نظر من هو مثلي يعيش في أيامه الأخيرة.

ولكن الذي يهمني هو أن أعرف الحقيقة في هذا الصدد. فإني قد كتبت على غلاف كتبي التي صدرت بعد عام 1970 – وهو عام إحالته إلى التقاعد من الجامعة بناءً على طلبه – بأني أستاذ متمرس، وربما صدرت لي كتب أخرى في أواخر أيامي. فالرجاء منك تبيان الحقيقة لي لكي أعلن ذلك للقراء فلا يبقوا مخدوعين بي. والله الساتر على كل حال”..
* لكن هل يعقل أن علامة بهذا المستوى ورائداً من رواد التنوير وعلم الاجتماع في المجتمع العراقي يعامل بهذه الطريقة؟
ـ هناك ما هو أكثر من ذلك، ففي إحدى المحاضرات التي ألقاها الوردي في اتحاد المؤرخين العرب في بغداد والتي ركزّ فيها على الجوانب السلبية والسيئة في تاريخ بغداد، وانتقد من يكتفي بذكر محاسنها وإيجابياتها،

نهض أحد الحاضرين وهو عميد كلية الآداب آنذاك وطالبه بالتوقف عن محاضرته وإلاّ استدعى الشرطة للقبض عليه.

فردّ عليه الوردي بهدوء وبابتسامة استهزاء وقال: “انظروا إلى هذا العميد، فإنه أفضل مثال يمكن أن آتي به على ما أقول”.

لقد تعرض الوردي في أواخر أيامه إلى مضايقات كثيرة من أشخاص كانوا يوحون بأنها تأتي بفعل توجيهات من جهات عليا ولم يكن لهذا أي أساس من الصحة، كانوا يعملون على وفق قاعدة (ملكي أكثر من الملك)!!
* ذكر (الدكتور عبد الإله الصائغ) مؤخراً أن النظام السابق سجن الدكتور علي الوردي.. ما صحة ذلك؟
ـ لم يُسجن على الإطلاق، وقد دهشت لما ذكره الدكتور عبد الإله الصائغ عن سجن الوردي لأن هذه المعلومة لا أساس لها من الصحة.. ولا أدري هل أبدو متطرفاً أو مبالغاً إذا قلت لك إن الدولة كانت تهاب الوردي؟
* ما هو الدليل على هذا الرأي الذي سيصدم الكثيرين؟
ـ دليلي على ذلك هو محاضرة الوردي الصاعقة بعد أحداث عام 1991. والتي أصابت محبيّه بالرعب وسميناها “قنبلة الوردي الانتحارية”؟!.. نعم. كانت أشبه بالكارثة.

وقد كنت شاهداً على تفصيلاتها الخطيرة، وحاضراً في القاعة التي ألقى فيها المحاضرة وحضرها عدد كبير من مريدي الوردي مثل الدكتور عبد الأمير الورد ومحمد الخاقاني.

ألقى الوردي هذه المحاضرة أواخر شهر آذار عام 1991 في منتدى أمانة بغداد، وكان المنتدى يعقد جلساته عادة في قاعة تقع في الطابق الثاني من بناية المتحف البغدادي، ولكن القاعة ضاقت بالحاضرين الذين وقفوا على السلالم. بل حتى في الشوارع المجاورة فأوعز أمين بغداد يومها وكان المرحوم (خالـد عبد المنعم رشيد) ينقل المحاضر والمحاضرين بحافلات كبيرة إلى القاعة الكبرى في مبنى أمانة بغداد والتي ضاقت هي الأخرى بالحاضرين على الرغم من اتساعها. وقد كانت هذه المحاضرة حدثاً مهماً في تلك الأيام لتـزامنها مع انتهاء حرب الخليج الثانية وما أعقبها من أحداث في محافظات العراق حيث عدّ بعضهم حوادث السلب والنهب والعنف تأكيداً لنظريات الوردي وتحليلاته حول تأثير البداوة في شخصية العراقي.

وفي تلك المحاضرة أعلن الوردي بنحو هادئ غضبه على الطريقة التي تعامل بها النظام مع ما سمي وقتها بـ(الغوغاء) أو (صفحة الغدر والخيانة) ومن الطريف الذي يجدر ذكره هنا هو أن أمين بغداد تقدم إلى المنصة ووضع جهاز تسجيل أمام الوردي، وعندما سأله الوردي عن سبب تسجيل المحاضرة قال له أمين بغداد: إن السيّد الرئيس (صدام حسين) يريد الاستماع إليها.

وهنا تحوّل الوردي إلى انتقادات حادّة وصريحة ليسمعها الرئيس. وقال فيما قال: “نحن لسنا فئران تجارب لتدخلونا كل يوم في تجربة جديدة، فما معنى أن تستحدثوا مثلاً شرطة أخلاق، بالله عليكم هل لدى الشرطة أخلاق أصلاً؟ فإذا كنتم قد ضللتم الطريق فتعالوا إلينا لندلكم على الطريق الصحيح لحكم الشعب.

ثم قال بالحرف: “لا تليق بهذا الشعب الـ(…) إلاّ مثل هذه الحكومة الـ(…). وكانت الأوصاف التي تركتها فارغة بين قوسين قاسية جداً وشديدة الجرأة.

وعندما رأى علامات الغضب على وجه أمين بغداد، قال الوردي مبرّراً: “هذا ليس قولي.. إنما هو قول النبي (محمد) الذي يقول: “كيفما تكونوا يولّ عليكم”. والواقع أن هذا الكــلام كــان له وقع في نفوس الحاضرين، لحساسية الظرف العام الذي كانت تمرّ به البلاد، بعد انسحابها من الكويت وعدم قدرتها على مجابهة أمريكا والدول المتحالفة معها، فضلاً عن الأحداث العاصفة التي مرّت بعد الانسحاب من شمال العراق ووسطه وجنوبه، وعلى الرغم من خطورة هذا إلا أنه كان إخلاصاً من الوردي لمنهجه ومبادئه ولمجتمعه.. وهي جرأة هائلة يُحسد عليها في الوقت الذي صمت فيه الجميع، بل بدأ الكثيرون بالمجاملة على حساب مبادئهم العلمية..
* هل حصلت تبعات على هذا الموقف؟
ـ لم تحصل أي تبعات. وأعيد القول إن الوردي لم يُسجن مثلما قال الدكتور عبد الإله الصائغ..

وأود هنا الإشارة إلى أنّ التقولات والشائعات كانت تعود إلى سبب رئيس تتحمله الدولة وهو (ضبابية) موقفها منه. ولو كانت قد حددت موقفها منه بوضوح سلباً أو إيجاباً لكان أفضل لها بكثير من حالة الضبابية تلك التي خلطت الأمور وأساءت إلى نفسها.
* لكن الرئيس الراحل حدّد موقفه علناً من الوردي، على الأقل فرضية في ازدواجية شخصية العراقي التي رفضها على شاشة التلفاز..
ـ أنت تقصدين الحوار المطوّل الذي أجرته الصحفية الأمريكية (كريستين هيلمز) مع الرئيس الراحل صدام حسين والذي سألته فيه عن ازدواجية الشخصية العراقية، فنفى بشدة أن يكون الإنسان العراقي مزدوج الشخصية، فردّت عليه بأن بروفيسوراً عراقياً هو الدكتور (علي الوردي) يرى غير ذلك.

ولكن انظري أيضاً إلى (حسن تخلص) الوردي حين سئل بعد نشر تلك المقابلة في الصحف عن رأيه بوجهة نظر الرئيس نفى أن يكون هناك أي تناقض بين الرأيين، فالرئيس – حسب رأي الوردي- ينظر إلى الأمر من وجهة نظر القائد السياسي، بينما هو (أي الوردي) فينظر إلى الأمر من وجهة نظر علمية محضة.
* وهل ترتب شيء على وجهة نظره الذكية هذه؟
ـ ترتب شيء مهم أخبرني به الوردي نفسه. ففي أحد الصباحات طرق باب بيت الوردي الذي خرج بزيه البيتي المميّز، غطاء الرأس و(الروب) فوجد أمامه كبير مرافقي رئيس الدولة الذي قال له: السلام عليكم دكتور.

فردّ الوردي: لا عليكم السلام ولا رحمته ولا بركاته. فدهش كبير المرافقين وقال له: لماذا دكتور؟ فأجابه: أنا مريض وأنت تمنع عنّي السفر إلى الخارج للعلاج. وبعد مناقشة طويلة –عند الباب- قال له كبير المرافقين إنه قصده لأنه بحاجة إلى كتبه، فقال له الوردي: لا توجد عندي نسخ من كتبي. ولكن عندما قال له إن السيّد الرئيس هو الذي يريدها، قال له الوردي: إذا للسيّد الرئيس أنا أصير (كتب) له، وسلمه نسخاً من كتبه كلّها.
* أستاذ سلام، أليست مفارقة أن الوردي مترجم إلى الإنكليزية وتقرأه النخبة هناك ومنها – مثلاً – الصحفية (كريستين هيلمز) في حين أن النخبة السياسيّة لم تقرأه بصفة دقيقة؟
ـ والله مفارقة مؤلمة. وفوق ذلك كله فإن أعمال الوردي مترجمة إلى لغات كثيرة غير الإنكليزية كالألمانية والأسبانية والبولونية والفارسية.
* هل صحيح أن كتبه مترجمة إلى الفنـزويلية؟
ـ نعم. وتدّرس هناك على أساس وجود تشابه بين طبيعة المجتمع الفنـزويلي وطبيعة المجتمع العراقي.
* وهل صحيح أن بعض الدول الأوروبية كانت تسلّم سفراءها خلاصات بآراء الوردي قبل أن يذهبوا إلى بغداد للعمل فيها لكي يعرفوا كيف يتعاملوا مع الشخصية العراقية؟
ـ ليس لي معلومة مؤكدة في هذا المجال، ولكن هذا ما ذكره الدكتور (الورد) في مقدمته لكتابي، وذلك غير مستبعد.. وقد ظهرت الكثير من التقولات التي تشير إلى أن القيادة الأمريكية استفادت من كتابات الوردي في الطرق على الأوتار الحساسة في الشخصية العراقية لدى القيادة العراقية خلال الحرب والحصار على حد سواء. وهذا يلقي اللوم علينا لأننا لم نستفد من الوردي واستفاد منه أعداؤنا.
* هل صحيح أن كتب الوردي قد سحبت من الأسواق في الستعينيات؟
ـ كلاّ.
* وهل صحيح أنها سحبت من المكتبة الوطنية؟
ـ كلاّ. وذلك كله تقوّلات وأعتقد أن واحداً من أسبابها الرئيسيّة كما قلت لك هو (ضبابية) موقف الدولة من الوردي، لأنه لو كان الوردي محارباً بهذه الصفة فكيف وافقت الدولة على طبع كتابي وتوزيعه وبيعه في عام 1996 وهو كتاب (من وحي الثمانين) بآرائه الخطيرة؟..

أرجو أن نوسّع النظرة الموضوعية هنا، فالعلة تتجاوز المسؤول والدولة لتشمل المجتمع بأكمل.
* وهل كان الوردي موسوساً؟
ـ قبل سفره للدراسة إلى الولايات المتحدة كان موسوساً جداً حسب اعترافه لي ولكنه – وحسب قوله أيضاً – شُفي من الوساوس بعد عودته من أمريكا – لكن ما لاحظته هو أنه كان موسوساً بشأن صحته ويخاف من المرض.. وكان – لهذا الغرض – كثير البحث عن خلطات خاصة من الأعشاب لدى العشّابين.. وكان يؤمن بأنّ كأساً واحدة من الخمرة ليلاً ضرورية للصحة وللاسترخاء وللتفتح الذهني، كما أكد ذلك أيضاً الدكتور عبد الأمير الورد رحمه الله في مقدمته لكتابي (من وحي الثمانين) بطبعته الثانية.
* هل تعتقد أنّ عزلته تعود إلى وسوسته وتطيّره مثلاً؟
ـ لا أعلم على وجه الدقّة، لكن ما أستطيع تأكيده هو أنه لم يكن يسمح لأحد بزيارته أو الدخول إلى بيته. قد أكون الوحيد الذي دخل غرفة نومه، هو دعاني إلى رؤيتها، كان فيها سرير ومكتبة ضخمة.

في إحدى المرات غاب عنّا ثلاثة أو أربعة أيام فقلقنا عليه وذهبنا إلى بيته وكان آنذاك يسكن في منطقة الأعظمية إذ كان اشترى بيت (نور الدين محمود) أحد رؤساء العراق في العهد الملكي، أخذنا الدكتور (حسين علي محفوظ) وحين طرقنا الباب خرج علينا الوردي وصاح بنا بعصبيّة: “شكو جايين.. شعدكم.. أنا أتحسن وأزوركم.. هيا اذهبوا..” وطردنا.. لم يكن يدعو أحداً إلى بيته.. كان متمرداً على الأعراف والتقاليد..
* وهل تعتقد أن هذا شكل من أشكال التمرد على الأعراف والتقاليد؟..شخص يقوم بطرد أصدقاء يعودونه لأنه مريض.. هل نصفه بالتمرّد؟
ـ لم يكن الوردي يحب التعامل على وفق السياقات التقليدّية.
* لكنه كان يزور بيوت الناس ويحضر المجالس؟
ـ طبعاً، ومن النادر أن يتأخر عن مواعيد تلك المجالس وكان ملتزماً بتوقيتاتها.. مثلاً يوم الاثنين في مجلس الفقيه عيسى الخاقاني، والثلاثاء في مجلس عبد الرزاق محي الدين الذي دخل معه في المناقشات الشهيرة حول الشعر الجاهلي والتي نشرها في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) الخميس في (مكتبة الجواوين) عند السيّد جواد ابن السيّد (هبة الدين الشهرستاني) أول وزير معارف في العراق ومكانها هو الصحن الكاظمي.

ثم في مجلس (الشعرباف) – أما في أول جمعة من كل شهر ففي مجلس (خالد العزي)، وهناك المجالس اليومية إذ يحضر مجلساً في الروضة الكاظمية في غرفة سادن الروضة، الشـيخ فاضل الشيبي، ثم يزور محل صياغة السيّد صفاء الوردي ومحل بيع نظارات (باسل الخزرجي) كمجلس أخير قبل أن يصعد سيارات النقل العمومي، ويذهب إلى بيته.. وفي هذه المجالس كان أيضاً متمرداً على التقاليد..
* كيف؟
ـ كان في المجالس يرفض خلع حذائه كالآخرين، ويرفض عادة مصافحة الجميع من قبل أي زائر جديد.. وذات مرّة دخل شخص أحد المجالس ولم يكتف بالمصافحة فقط، بل كان يقبّل كل من يصافحه.. فصاح الوردي ساخراً: وفوكاهه يبوّس..
* وما أطرف ما تتذكره الآن عن مسيرتك مع الوردي؟
ـ دعي الوردي ذات مرّة لإلقاء محاضرة في محافظة ديالى.. وبعد المحاضرة التئم شمل المدعوين لتناول الطعام في أحد المطاعم الصيفية وكان من بين المدعوين عدد من النساء..

فانطلق الوردي في حديثه الممتع والشيق والفكه الذي أثار اهتمام السيدات ومتعتهن فكنّ يطالبنه بالمزيد..

ويبدو أن اهتمام السيّدات أثار غيرة وحفيظة أحد الأساتذة الحاضرين الذي بدأ يقاطع الوردي باستخفاف.

هنا توقف الوردي قليلاً عن الكلام وقال للحاضرين: يا جماعة.. لدي حكاية قديمة طريفة..

في إحدى المرات أخذ أحد القرويين حماراً لديه إلى السوق وكان الجميع يتصورون أنّه قد جاء بالحمار ليبيعه فجاء أحدهم وسأله: هذا الحمار للبيع؟ فأجابه القروي: لا.. هذا الحمار يرفس!! جاء آخر وسأله السؤال نفسه فأجابه: لا.. هذا يعض.. وكلما سأله أحدهم عن سعر الحمار عدّد له صفاته السيئة.

فسألوه: إذا لم تكن تريد بيعه فلماذا جئت به إلى السوق؟ فقال القروي: جئت لأريكم بأي حمار سيء ابتلتني الحياة؟ وأشار إلى الشخص الذي كان يقاطعه. فصمت الجميع وساد الجلسة التوتر.

ومرة كانت لديه محاضرة في اتحاد المؤرخين العرب ببغداد.. كان يتحدث وكانت “دكتورة” معروفة تتحدث مع شخص يجلس بجوارها، فقطع الوردي المحاضرة وقال: لهذا الشخص.. أخي.. قابل إجه عرسك ويّه عرسي؟؟

استاذ سلام الشماع فعلا حوار جميل وذكريات اجمل ….شكر خاص لك وامتنان باسم كافة محبي واصدقاء الدكتور المرحوم علي الوردي وبارك الله فيك وننتظر بشوق صدور كتبك الاخرى حول الوردي

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961