محمد الياسين*
ذاكرة تأريخية مثقله بالأزمات :
لا أود الخوض في سرد تأريخي للأحداث والنزاعات المسلحة التي وقعت بين الأنظمة السياسية في بغداد وبين الأكراد في الفترات الزمنية الماضية والحالية ، لكن يكفي الإشارة إلى أنه لم تمر حقبة زمنية سياسية لم تقع فيها نزاعات إما مسلحة أو أزمات سياسية بين حكومات بغداد والأكراد ، وهذا الملف الأصعب من بين الملفات السياسية لحكومات بغداد المتعاقبة ،مهما اختلفت في التوجهات السياسية ،فالأكراد كانوا ولا يزالون التحدي الأكبر على حكومات بغداد.
تعتبر المناطق الكردية في شمال العراق النافذة الحدودية الأكبر المطلة على تركيا وإيران . عانى العراق على مر التأريخ من الغزوات والإحتلالات التي وقعت عليه من قبل الأمبراطورية العثمانية السُنية الأمبراطورية الصفوية الشيعية ، وضل العراق طوال تأريخه القديم والحديث ساحة صراع صفوي –عثماني “سُني-شيعي” ، حتى جاء الإستعمار البريطاني على العراق وقدم للعراقيين خيارا لم يقدمه لا العثمانيين ولا الصفويين الذين لطالما لعبوا على وتر الطائفية في البلاد لأرضاخها تحت هيمنتهم ، قدم البريطانيون للعراقيين خيار حكم أنفسهم بتنصيب ملكا على العراق من الأسرة الهاشمية العربية بعد ثورة العشرين التي إندلعت ضد البريطانيين . وربما تكون من بين جملة الأسباب التي سهلت مهمة تسليم البريطانيين للحكم الى العراقيين هو عدم وجود مشتركات ( دينية ،قومية ،جغرافية،ثقافية) بين العراق وبريطانيا العظمى!.
لربما تكون أطماع الأتراك والايرانيين في العراق من أعظم التهديدات التي يتعرض لها كلما ضعفت حكومات بغداد أو تعرضت لإحتلالات خارجية كما حدث بعد العام 2003 . فمن المشكلات التي عانى منها العراق بعد إحتلاله ، حدوده المفتوحة على 6 دول عربية وغير عربية ، لربما تكون تلك ميزة إقتصادية جيدة لدولة أخرى تحضى بدبلوماسية متزنة وسياسات هادئة ، بينما العراق لم يحضى بذلك منذ قدوم الجمهورية عام 1958.
مقومات الدولة الكردية:
في هذا السياق تجدر الإشارة ايضا لمقومات دولة كردية قومية ينادي بها الأكراد بصورة عامة ، ولفهم هذا الأمر ينبغي التطرق قليلا للتوزيع السكاني والجيوسياسي للأكراد بالمنطقة . للأكراد في العراق وسورية ، تركيا وإيران مناطق جغرافية متلاصقه ، ويمتلكون اللغة والثقافة والتأريخ المشترك ، وكذلك الحلم القومي المشترك بإقامة دولة كردية ممتدة في مناطق غنية بالثروات النفطية وأراضى زراعية خصبة تخترقها مياه الأنهار وطبيعة خلابه مناسبة للإستثمار السياحي .
تجربة الحكم الكردية في العراق :
نجاح التجربة الكردية في العراق أعطت دافعا قويا لعموم الأكراد في المنطقة بالتحرك سياسيا نحو خيار الدولة القومية أو الحكم الذاتي على الأقل، فأصبحت أربيل عاصمة إقليم كردستان بوصلة للقوى السياسية والاجتماعية الكردية في الدول المجاورة ، حيث تمكنت القوى الكردية في العراق خلال العقود الماضية من التأسيس لنموذج دولة مصغر حظي بقبول دولي واسع لا يُنكر الدور الإسرائيلي في التأسيس لهذا القبول ، إذ للقوى الكردية النافذة علاقات إستراتيجية مشتركة منذ القدم مع الأسرائيلين ، والجميع يعلم أن الإسرائيليون لا يتحركون في القضايا الإستراتيجيةمن خلال الدولة الإسرائيلية بقدر تحركهم من خلال اللوبيات اليهودية المنتشرة في العالم وهي الأكثر قوة ونفوذ ، وهذا يحسب لهم لا عليهم ، فقد إستطاع الاسرائيليون تسويق القضية الكردية عالميا ، وبناء رأي عام دولي داعم للكرد وقضية الدولة القومية ، وللأسرائيلين مصلحة إستراتيجية مشتركة مع الكرد ،لأن قبول المجتمع الدولي بدولة قومية للكرد في الشرق الأوسط يعني القبول بدولة قومية أخرى ، وهذا ما يسعى الأسرائيليون لتحقيقه .
الدليل على أن المجتمع الدولي والرأي العام العالمي صار جاهزا لقبول أمر الدولة الكردية ، تجسد تماماً في الحرب على داعش ، فالمجتمع الدولي والقوى الكبرى وحلف شمال الأطلسي “الناتو” فضل إقامة تحالفا إستراتيجيا مع الأكراد في قتال داعش على إقامة تحالفا بنفس المستوى مع الأطراف الأخرى ومنها حكومة بغداد ، وحظي الأكراد بدعم سياسي وعسكري وإعلامي غربي عال المستوى ، وصار الإعلام الغربي وصناع القرار السياسي في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية يتحدثون صراحة عن الأكراد بأنهم الشريك الإستراتيجي الحقيقي لهم في هذه الحرب!. وهم لا يتخوفون من تزويد الأكراد بأسلحة إستراتيجية متطورة للحرب ضد داعش بينما يواجهون مخاوف جدية تجاه حكومة بغداد! التي لا تزال مترنحه بين الدعم الغربي والدعم الروسي -الإيراني!.
العراق العربي ، الدولة والهوية:
منذ قدوم الجمهورية الى العراق عام 1958 بعد الإطاحة بالتجربة الملكية لحكم العراق وبداية صعود التيار القومي وصولا لاسقاطه للشيوعية واستلامه دفة الحكم ، استمرت الانظمة القومية العربية الحاكمة في ازدواجية الهوية والترنح بين خطاب قومي واخر وطني غير منسجم ، فالأكراد ليسوا عربا ،الأمر الذي أدخلها في مزيد من الصراعات مع الأكراد كونها قدمت العراق بالشكل الذي عليه كأنه عربيا صرف وبذلك أسقطت ملايين الأكراد من الحساب السياسي للدولة العراقية ، بل أصبح الأكراد عبئا حقيقيا محرجا على الخطاب القومي للدولة العراقية ، و ذهبت الحكومات العراقية خلال فترات زمنية ماضية نحو تطبيق سياسة التعريب على الأكراد!. الأمر الذي زاد من حدة الخلافات وأستفز الأكراد وساهم في تقوية الخطاب العنصري لديهم وصولا لحصولهم على حكم ذاتي شمال العراق ” المناطق الكردية ” وتأسيس التجربة المذكورة أعلاه.
إزدواجية الهوية من المشاكل التي ضلت ملازمة لعقلية السياسي العراقي العربي، دون فهم وإدراك لخطورة وصعوبة الأمر على هوية الدولة العراقية،أهل هي وطنية بمعنى أن الأكراد جزءا رئيسيا منها بالتالي لا يصح القول أنها دولة عربية ، أم أنها دولة عربية لا يصح القول أن الأكراد جزء منها؟! ، لأن هذا الخطاب شكل معضلة أساسية بالنسبة للأكراد أنفسهم، إستثمرتها القوى الكردية الإنفصالية بالقول :أن الحكومات العراقية العربية أسقطت الشعب الكردي من حسابات المواطنة بإعتبارها أن العراق عراقا عربيا!!، لذا ينبغي أن نذهب لتصنيف أنفسنا كسياسيين عرب عراقيين لإيجاد صيغة حل والخروج من إشكالية الهوية الوطنية للدولة وشكل النظام الحاكم! ، كما يفعل الساسة الأكراد ، فهم يسوقون أنفسهم على أنهم ساسة أكراد يبحثون عن مصالحهم القومية و يتحركون ضمن إطار الدولة العراقية بشكلها الحالي فقط لأن مصالحهم القومية الكردية تقتضي ذلك في الوقت الراهن! . نعم. فالذهاب بالتفكير بالمصلحة القومية لعرب العراق سيفتح أمامنا أبواب للحلول موصده! .
ماهي مصلحة عرب العراق بإنفصال الكرد وإقامة دولتهم المنشودة؟ تحدثنا في بداية المقال عن أن المناطق الشمالية للعراق هي النافذة الأكبر المطلة على تركيا وإيران ، فإقامة دولة كردية في تلك المناطق يعتبر بمثابة جدار عازل بين حدود العراق العربي وتلك الدول التي لطالما كانت سببا في تصدير الأزمات والمشكلات للعراق أو على الأقل تقليل حجم الخطر القادم من خارج الحدود الى العراق من تلك الدول ،لأن للعراق منافذ حدودية اخرى مع ايران من جهة جنوب العراق وشط العرب! . فمن المشكلات التي عانى منها العراق منذ إحتلاله عام 2003 حدوده المفتوحة على 6 دول محيطة به ، وبسبب أن سياسات الحكومات السابقة كانت عدائية تجاه دول الجوار، فقد كانت الفوضى التي ساهمت بها بعض الدول المحيطة بالعراق، وخاصة ايران وتركيا فرصة ذهبية لتحطيم العراق ،كي لا ينهض كقوة ضاربة من جديد ويشكل تهديدا على جيرانه بمن فيهم العرب ، فعودة العراق كدولة قوية يحكمها نظاما ديمقراطيا! لا يكفي لزرع الطمأنينة في نفوس الدول المجاورة ، فربما يتمكن بعض العدائيين مستقبلا من الوصول لسدة الحكم وتعود الأزمات بين العراق وجيرانه للواجهة!! لذا كان إضعاف العراق من الخيارات التي عملت عليها أغلب دول الجوار ، إضافة لذلك الأطماع التأريخية لإيران وتركيا في العراق ، فعودة الخطاب الطائفي الموجه للعراق من قبل ايران وتركيا من أبرز المشكلات الحديثة القديمة التي عادت الى الواجهة من جديد!. لذا فأن الدولة الكردية لربما توصد نافذة حدودية عريضة مطلة على ايران وتركيا ، رغم ان للعراق منافذ اخرى عليهما ، لكن الخلاص من ملف داخلي شكل معضلة للدولة العراقية وهويتها ” الأكراد” وإغلاق نافذة كبيرة على جيرانه العدائيين من الأمور التي تستحق التعمق بالتفكير . لكن ، هذا لا يعني إعطاء ضوء أخضر للأكراد بالموافقة على إقامة دولة قومية دون مراعاة بعض الأمور الأساسية ومنها :
اولاً : ينبغي قبل ذلك إعادة النظر في شكل النظام السياسي الحاكم للعراق العربي ، بمعنى آخر أن النظام الجمهوري قاد العراق طوال العقود الماضية ولا يزال نحو أزمات وحروب ومشاكل داخلية حطمت البنى التحتية للدولة وفككت المجتمع واستنزفت ثروات البلاد ، وإعادة البلاد للحكم الملكي المناسب هو الخيار الأسلم لوضع العراق العربي ونظامه الجديد على جادة الطريق .
البقية غداً