* فيصل عبدالحسن / الرباط :
عندما يتناول الأدباء العراقيون الهجرة السرية لأبناء بلدهم، فإنهم يضعون في اعتبارهم أيضاً تاريخاً طويلاً ومؤلماً لهجرة آسيويين وأفريقيين من أوطانهم المنكوبة بالحروب والمجاعات، والفتن الأثنية والطائفية، سبقوهم، وكذلك كان عليهم تتبع التفاصيل الدقيقة المستخدمة في وسائل التهريب غير الشرعي بين دول الجنوب والشمال.وهذا يجعلهم يفتحون أحد أهم ملفات الاتجار بالبشر عبر الدول، واستغلال البعض لمآسي الناس في سبيل جمع ما يمكن جمعه من أموال على حساب آلام الناس، وشجونهم وبحثهم عن حياة آمنة وكريمة.
ففي رواية «الهندي المزيف» للكاتب عباس خضر تحدث السارد عن مخطوطة وجدها الروائي في أحد القطارات الألمانية، وتلك المخطوطة كانت تحمل عنواناً دالاً «ذكريات» هي في الحقيقة مسودات ليوميات مهاجر عراقي «رسول حميد» وصل إلى ألمانيا حديثاً بعد مكابدات شتى ورحلات مارثونية بين دول العالم، تعرض خلالها لمخاطر شتى كاد خلالها أن يموت عدة مرات، ولكن الله تعالى كان ينقذه في كل مرة.وفي ديوانين شعريين للكاتب ذاته، هما «تدوين لزمن ضائع» 2002 و»ما من وطن للملائكة» 2004 وردت ذات التعادلية بين الموت في الوطن أو الهجرة إلى الموت والكاتب كغيره من كتاب العراق، الذين رفضوا عسكرة البلاد وادخالها في حروب عبثية، عاش أحداثاً دراماتيكية في العراق، وكذلك حتى بعد هروبه من العراق، وقد كتبت عن ديوانه الأول «تدوين لزمن ضائع» فور صدوره عام 2002.وأشرت فيما كتبته إلى التسجيل الوقائعي اليومي في طرح مأساتنا كعراقيين، وتحويل الويلات التي نعيشها إلى نص شعري يحرك مكامن التأثر في روح أي قارئ يقرأ ذلك الشعرأو يسمعه، وقد استطاع الكثير من شعراء النثر العراقيين المهاجرين من العراق تحويل ما مررنا به من مرارات إلى قصائد جميلة تحكي عن الفقدان، وحزن الأمهات العراقيات اللائي تألمن طوال عقود من الحروب، والحصارات، وفقدان الأحباء من الأهل والأبناء، وما أصابهم من مصاعب في حياتهم في وطنهم، وحتى بعد مغادرة وطنهم بسبب الحروب مع دول الجوار، التي أحرقت الأخضر واليابس، وتسببت في صعوبات حقيقية لملايين العراقيين في العراق وخارجه.تندرج مأساة بطل «الهندي المزيف» رسول حميد فيما يسمى «البحث عن هوية بديلة» فقد اعتقد كل من قابله خارج العراق من الأجانب بإنه هندي قادم من الهند ليطلب لجوءاً في ألمانيا، بسبب صفاته الخارجية، ولونه الأسمر ولكنته المميزة.انعكست في تلك اليوميات جميع المتاعب والصعوبات الحقيقة التي واجهها خضر في حياته، ولنا أن نتخيل معاناة خضر، الذي لم يكن سوى شاب صغير موهوب، ورواية «الهندي المزيف» حكت جانباً من هذه المأساة.وقد رويت انا شخصياً في روايتي «تحيا الحياة» بعض التجارب التي مرَّ بها العراقيون من خلال معايشة الذين رافقوني في عمليات تجاوز الحدود بجوازاتمزوَّرة، فقد كانوا يموتون خوفاً في كل لحظة، خلال عبورهم من نقطة الحدود «طريبيل» فعقوبة التزوير في أوراق رسمية في العراق معروفة بقسوتها عند تجاوز الحدود العراقية باتجاه الاردن وخصوصاً إذا كان الذي فعلها سجيناً سياسياً سابقاً.وفي الأردن، وبعد معاناة طويلة ومريرة للشعراء والقصاصين والصحفيين والمهندسين والأطباء والحرفيين العراقيين من البطالة والقليل منهم من المحظوظين من يحصل على عمل في مهن مختلفة، ويجمع مبلغاً صغيراً من المال، ليسافر إلى خارج الأردن في فترة التسعينيات من القرن الماضي المعروفة بصعوبة العيش فيها، لقلة الاعمال وغلاء المعيشة بالنسبة للعراقيين الخارجين من بلد يعاني من تضخم اقتصادي كبير ضاعف أسعار كل شيء، وقد تركوا بلادهم بجيوب فارغة إلا من مبالغ ضئيلة، ليصيروا بعيداً عن دوامة الاقتصاد المتدهور في العراق.وهم يعانون أيضاً إضافة إلى ذلك بين الحين والآخر في تلك السنوات السود من حملات البحث عن المقيمين غير الشرعيين في الأردن، وقد كان الكثيرون من الأدباء العراقيين من أولئك المقيمين غير الشرعيين، وحالما يتم القبض عليهم يتم إبعادهم مجدداً إلى وطنهم – العراق – حيث تتلقفهم أيدي رجال مخابرات الدولة في ذلك العهد، من منطقة طريبيل الحدودية، خصوصاً لمن كان جواز سفره مزوراً، فكان ذلك مصدر رعب للجميع، ومعنى ذلك باختصار أن يصير المقبوض عليه، ضمن قوائم المختفين إلى الأبد! ولا يعرف أحد مصيره، إلى أن يأتي يوم القيامة، وعندها يأتي كل شاهد بشهيد، لذلك تشبث الكثيرون من العراقيين بذلك الملجأ المؤقت بأي ثمن، والبحث عن أية وسيلة للهروب من ذلك القدر المأساوي بالابتعاد ما أمكن عن أرض الأردن.وعندما تجيء الفرصة المناسبة، فيثب العراقيون من الأردن مع الذاهبين إلى المجهول، إلى مكان ما من شمال إفريقيا حيث يبقى هناك العراقيون مثل ذئاب جائعة وجريحة (كما وصف أحد النقاد في إحدى مقالاته العراقيين الفارين إلى تونس…) ويبقون ينتظرون الفرج وخلال ذلك يكتبون رسائلهم الأخيرة، التي يودعونها قبل أن يركبوا البحر في زوارق المهربين المتهالكة، أو يعهدون بها إلى أصدقاء لهم يبقون على الساحل التونسي بانتظار فرصة أخرى للإبحار إلى المجهول، والموت غرقاً كغيرهم من المهاجرين السريين، وعليهم أن يوصلوا تلك الودائع والرسائل الأخيرة لأهلهم في حالة غرقهم، وانقطاع أخبارهم في لجج البحر الأبيض الموتسط. وكم من رسالة غريق فقد في البحر من العراقيين بُعثت لأهله بعد التأكد من موته غرقاً، فسُمِيَّ من يكلف برسائل الغرقى، ساعي بريد العراقيين الغرقى.
* كاتب وصحفي عراقي مقيم في المغرب