وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

أهم الأخبار ادب وتراث

الموت أهون من خَطيّة

عبد الزهرة زكي *
ــــــــــــــــــــــ
في إحدى المرات، وكان بدر شاكر السياب في غروب حياته، أعاد مكافأة صُرفت له من مجلة (العربي) الكويتية وذلك عن قصيدة له، وكان لهذا التصرف من السياب حكاية مهمة.

عبد الزهرة زكي
فقد بعث السياب بالبريد قصيدته للمجلة واسعة الانتشار حينها.
القصيدة كانت مشفوعةً برسالةٍ يرجو الشاعر فيها أصدقاءه في المجلة للإسراع بنشرها لحاجته إلى مكافأتِها المالية بفعل ظرفه المالي والصحي وقتذاك.
بعد شهر حمل البريد مبلغ المكافأة للشاعر الرائد مع وعدٍ بأن القصيدةَ ستُنشر لاحقاً. لقد كان النشر يتطلب في القليل شهرين، خصوصا إذا لم يكن الشاعر قريباً (مكانياً) من المجلة، ويعتمد على البريد كوسيلة لإيصال القصيدة إلى خارج البلد.
مع وصول المبلغ لأبي غيلان، وصل إلى البصرة عدد من المجلة وكان خِلواً من القصيدة، فتوقّع السياب أن القصيدة لم ترق للمجلة وأنها لن تنشرها، وبهذا حسبَ أن تصرفاً من إدارة المجلة لمداراة احتياج الشاعر هو ما دفع بها لتبعث بالمبلغ إليه من دون الحاجة إلى نشر القصيدة.
في حالات العوز يمكن أن تتهيأ لكلِّ كريمِ نفسٍ تصوّراتٌ مبالغة في تحسّبها واحتمالات قد لا ترد في بال الآخرين ويمكن لها أن تخدش كرامته، حتى وإن كان دافع التصرّف كريماً.
هذا ما حصل للسياب بعد وصول المبلغ وورد عدد المجلة خالياً من القصيدة، فاستسلم لتصوراته وما تهيأ له، وما كان له إلا أن يضع المبلغ برسالةٍ ويعيده إلى المجلة مع رسالة اعتذار عن قبول المبلغ ما دامت القصيدة لا تناسب المجلة كما افترض وتوقّع هو ذلك.
كان هذا تصرّفاً ينمّ عن كرامةٍ وعزةِ نفسٍ وترفّعٍ على موضع الاستعطاف، أليس السياب هو ذاته القائل: (الموتُ أهونُ من خطيّة)؟ ـ و(خَطيّة) بالتعبير الشعبي العراقي يعادل بالفصحى ما يقال عن المرء (مسكين) في حالات ضعفه وحاجته ــ
لكن، وقبل عودة المبلغ إلى المجلة، نُشرت القصيدة في عدد المجلة التالي، فأعيدت المكافأة ثانيةً للشاعر، ومعها نسخة من عدد المجلة الذي نشرت فيه القصيدة، حيث استقبلها السياب هذه المرة بامتنان وتقدير. إنها حقّه الذي ما أراد، في المرة الأولى، أن يأخذه دون مقابل.
الكاتب والشاعر منتجٌ لأعمالٍ هي مبرّر وجودِه وأساسُ عملِه في الحياة والثقافة، وما قيمة المُنتَج من دون مقابل!
من الصحيح أن مردوداتٍ اعتباريةً هي أساس التأليف وهي أيضاً دافع الإنتاج في أي مجال سوى مجال التأليف، لكن ليس من منتَج آخر، غير كتابي، لا يروم المردود الاعتباري، بتحقق المردود الاعتباري يرتفع المقابل المادي كلما ارتفعت القيمةُ الاعتبارية للمنتَج. إزاء هذا يحقّ التساؤل عن مبرّر أن يكتفي المنتِج الكتابي بما تحظى به منتَجاتُه من قيمةٍ اعتبارية؟ ما مبرر أن لا يعيش الكاتب من مردودٍ ماليٍّ ينبغي أن يتقاضاه عما يؤلّف ويُنتِج؟
سيردُ في البال حتماً أن في العالم المعاصر عشراتٍ وربما مئات من المؤلفين ممن يمكن أن يجنوا مئات الآلاف وربما الملايين من حاصلِ تسويقِ مؤلفاتِهم ببلدانهم وخارجها. وهذا حال ليس مقترناً بالضرورة بالقيمة الأدبية وحدها للمؤلفات؛ تسويق الكتاب تتحكم به عوامل كثيرة تبدأ من وجود سوق أولاً، والسوق ليس فقط مكاناً وعلاقات متاجرة متبادلة ما بين منتِجٍ وبائع ومشترٍ، السوق نظام من التقاليد والثقافة والقيم الاجتماعية والحضارية الفاعلة في مجتمع السوق من منتجين وعارضين للمنتوجات ومستهلكين، وهذا النظام هو ما يجعل السوق متحرِّكاً فاعلاً أو راكداً أو مغلقاً تماماً. نحن نحيا في بلدان لا وجود فيها للسوق الثقافي. وبهذا فإن معايير القياس غير ممكنة ما بيننا وبين بلدان الأسواق الثقافية الكبيرة. استحداث هذه الأسواق هو عمل يتطلب إمكانات أكبر من الإمكانات المجردة لمؤلفين عُزَّل، لا يكفي أن ينجز المؤلفون كتباً عظيمة بمجالاتها ليكون هناك سوق. تاريخ الثقافة حافل بقصص مؤلّفين كبار انتهت حيواتهم ولم يظفروا بما يسدّ أدنى حاجاتهم مقابل ما ألفوا.
سوى التاريخ فإن الحاضر، كما هو في تلك البلدان ذات الأسواق الكتبية الكبيرة، يؤكد دائماً وجودَ منتجاتٍ رفيعة لمؤلفين في مختلف الحقول لكنها لا تجد لها مجالاً تنافسياً في التسويق. لا تبدأ قائمة هذه المجالات بالشعر والقصة القصيرة ونقدهما ولا تنتهي بأعمال الفكر ودراسات الفلسفة والعلوم التخصصية الإنسانية والعلوم الأخرى النظرية منها والتطبيقية. إنها مجالات تقع في صميمِ أيةِ ثقافة، وتراجع الإنتاج فيها أو تقدّمُه يقع ضمن المسؤوليات الكبيرة المترتبة على المجتمع وعلى سلطات الدولة ذات الصلة. في تلك الدول ينهض المجتمع، عبر مؤسساته وتشريعاته، وبمختلف فعالياته، بمسؤوليةٍ من أجل خلق أجواء مناسبة لدعم النشر والناشرين ولإدامة الإنتاج في تلك المجالات وتحفيز العاملين فيها لمواصلة عملهم التأليفي.
هؤلاء العاملون هم أيضاً، كما السيّاب ومثاله، لا ينتظرون (فضلاً) أو استعطافاً من أحد. لقد انتهى ذلك الزمن الذي يمكن فيه أن يرعى ميسورٌ أو متنفّذ كاتباً ليواصل الكتابة.
لم يكن السياب يريد أن يكون عالةً على أحد مهما كان نبل الدوافع الأخلاقية لهذا الأحد. لم يكن يريد لقصيدته أن تمرّ للنشر (إكراماً) له، ولم يكن يسمح لنفسه أن يتلقى مكافأة من دون حاجة فعلية لنشر القصيدة، لم يكن يريد الحالين، كان يريد أن تكون القصيدة حاجة حقيقية للمجلة ومحررها وقارئها قبل أن يتلقى مبلغ المكافأة سواء أكان زهيداً أو ذا قيمة مكافئة للمنتوج الأدبي الذي هو، بحالة السياب، قصيدة.
*شاعر واعلامي من العراق 

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961