Calle Ocho — Little Havana, Miami
كتب جاسب عبدالمجيد
قبل أن يهاجم إعصار إيرما ميامي ، تذكرتُ معظم الأحداث في الشارع الثامن في هافانا الصغيرة ،( ليتل هافانا).
حفّز الخوف الطبيعي ذاكرتي وجعلها تُعيد إنتاج الصور المخزنة فيها ، مثل الحافلات الحمر التي تنقل السيّاح إلى مكان الثقافة الكوبية للاستمتاع بالموسيقى اللاتينية, والمشاركة في أداء الرقصات الشعبية على إيقاع الرومبا.
أعادت ذاكرتي كل التفاصيل ، مهرجان الموسيقى المدرسية وكرنفال آذار ، بكل جنونه وموسيقاه الصاخبة ورائحة الطعام في الشارع الثامن. تذكرتُ المشردين من مدمني المخدرات ، فلكل منهم دوره الخاص في تشكيل هوية الشارع .. لكل متشرد سماته الخاصة.
في هافانا الصغيرة، ميامي ، تشعر بالجذور الكوبية في كل مكان ، صناعة السيجار ، الطعام, الموسيقى ، اللوحات الجدارية ، في الرقص أيضًا. الديك رمز الشارع الثامن, وهو موجود في كل ركن من أركان المكان, حاضر حيّا وتمثالا.
إن الكوبيين الساعين إلى الحرية على التراب الأمريكي يحملون جذورهم معهم, لأنهم يحملون وطنهم في قلوبهم خوفًا من الضياع أو الانقراض, لكنني لا أعرف ماذا يحمل الخائنون منهم.
الجيل القديم يوصي الأجيال الجديدة بالحفاظ على التراث الكوبي.
اصطدمت الصور في مخيلتي حتى تحطمت ذاكرتي بسبب شدة الصراع, كل صورة تريد أن تظهر قبل الأخرى…. لقد حدث خطأ ما في نظام الذاكرة. في رأيي ، الحياة في هافانا الصغيرة تستمد جمالياتها من البساطة ، الموسيقى ، رقصة الرومبا ، لعبة الإغواء وتاريخ العبودية، كل شيء في هذا الشارع يخبرك: ارقص وابتسم! أنت في هافانا الصغيرة.
قبل إعصار إيرما ، كان الناس يستمعون إلى أخبار الطقس بلا مبالاة ، لكن عندما ارتفع مستوى التحذير من الإعصار ، أخذ المجتمع في التعامل مع الأمر على محمل الجد. في الشارع الثامن ، هرع البشر إلى المتاجر لشراء الطعام والمياه ، لكن المتاجر ومراكز التسوق لم تكن مستعدة جيدًا لهذه الكارثة الطبيعية. نفد مخزونها بسرعة، خاصة المياه المعبأة . قبل أيام من وصول إعصار إيرما إلى هافانا الصغيرة ، بدأ بيع المياه المعبأة على الطريق بأسعار أعلى من المعتاد. خرجتُ لمشاهدة الأجواء في تجربتي الأولى مع كارثة طبيعية بهذ الحجم. بدأ الخوف في الظهور على وجوه المّارة ، خاصة مع التحذير الأخير “إذا لم تترك المكان, ستموت.”
كان العمال وأصحاب المحال التجارية مشغولين بتغطية نوافذ المتاجر بألواح خشبية لحمايتها من أي تأثيرات محتملة.
سارة موظفة في متجر ( سفن إيلفن), كانت تُدّخن بشراهة خارج المتجر وهي تراقب حركة تغليف الواجهة, كانت قلقة من الإعصار. شعرت سارة بالخوف, لأنها لم تعش تجربة مماثلة من قبل. . سارة عاملة نشيطة, تحبُ عملها وترتب كل شيء وتحافظ على نظافة المكان وتعامل العملاء بلطف. كانت تنفث دخان السجائر في السماء ثم غادرت المكان بعد أن عانقت زملاءها في المتجر.
بالقرب من متجر ( سفن إيلفن), توفي رجل عجوز في مبنى سكني, تاركاً زوجته في حزن شديد. لم يكن الوقت مناسبا لهذا الموت, لأن العائلات كانت مشغولة في التحضير لمواجهة إيرما, لكن مع هذا, وقف ساكنو العمارة مع الأرملة في الجنازة, وقدموا لها كل الدعم.
في المبنى نفسه، أديلفا إمرأة عجوز تحب القراءة ولديها مجموعة متنوعة من الكتب في شقتها. كانت تطعم حمامتين على الشرفة. تلتقط الحمامتان الحبوب بحذر. قالت أديلفا: “هاجرت هذه الحمائم الأوراسيوية إلى ميامي من أوروبا في الثمانينيات. هذه الحمائم تشبه الكوبيين في هجرتهم, حيث يبحث الكوبيون عن مناخ حر، وهذا النوع من الحمائم يبحث عن مناخ دافئ, ثم قالت مازحة: لهذا تحب الطيور الأوراسية هذه البيئة الكوبية في ميامي.”
الكوبيون والطيور الأوراسية مهاجرون، يتقنون الإغواء. يرقص الكوبيون على إيقاع الرومبا ، وهي لعبة الإغراء ، ثم يتزوجون ، في حين أن الطيور الأوراسية لها رقصتها الخاصة, يؤدونها قبل كل لحظة حب. ينام الحمام على الفروع العلوية للشجرة المجاورة للمبنى.
قبل يومين من الإعصار ، بدأ المتخصصون في قطع فروع الأشجار بسرعة باستخدام بعض الأدوات, في حين كانت الحمائم تشاهد المشهد من فوق السطح.
يشكل المشردون( مدمنو المخدرات) جزءًا واضحًا من هوية الشارع الثامن…. إنهم يسيرون في الشارع يوميًا حاملين حقائبهم على ظهورهم ، بعضهم يستخدم عربات التسوق. كل واحد له ميزة خاصة.
في اليوم السابق لإعصار إيرما، اختفى المشردون وأصبح الشارع الثامن شيئًا آخر. كان غيابهم واضحاً ومؤثراً في هوية المكان.
في خضم الخوف والتفكير في المصير المجهول لإيرما ، تذكرتُ كرنفال ميامي الذي يقام في مارس من كل عام…. مرّت العديد من المشاهد في مخيلتي, أصوات وإيقاعات وموسيقى صاخبة ووجوه ضاحكة.
تُعّبر الأزياء المختلفة في المهرجان عن هويات الثقافات المختلفة التي تعيش في مساحة محدودة في ميامي. ذات يوم ، كانت مجموعة كوبية تعزف إيقاعات الرومبا بالقرب من المتحف الثامن…. كانت هناك امرأة ترقص مع زوجها وأطفالها وبناتها وأحفادها…. لفتت المجموعة الانتباه بسبب انسجام رقصات أفرادها.
قالت المرأة: “عندما كنت شابة في هافانا ، كنت أرقص مع بيدرو ، لقد كان شابًا قوياً ووسيما… حاول بيدرو إغرائي برقصه, وتبادلت معه رقصة مجنونة حتى استسلم لي. تزوجنا وأنجبنا أطفالاً ثم جاء الأحفاد بسبب رقصة الرومبا التي قدمناه في الشارع…. نحن سعداء لأن أحفادنا مرتبطون بجذورنا.”
عندما ضرب إعصار إيرما ( فئة 4) مدينة ميامي صباح يوم 10 سبتمبر 2017 ، كنتُ أشاهد مسار الإعصار على شاشة التلفاز ، وكانت جميع القنوات التلفزيونية تتابع الإعصار بكل تفاصيله. سمعتُ صوت الريح ، وشعرتُ بسقوط بعض المقذوفات على سطح الشقة العلوية التي كنت أسكنها. بعد هبوب الرياح الشديدة, سمعتُ دوي انفجار المولدات الكهربائية ، ثم فقدنا الطاقة داخل المنزل, فواصلتُ متابعة الأخبار على الهاتف.
بعد يوم واحد من إعصار إيرما ، خرجتُ وتفحصتُ الشارع الثامن. تطايرت أغصان الأشجار بفعل الرياح العاتية وسقطت على الطريق والأرصفة. في المبنى الذي نعيش فيه ، تعاون الجميع من أجل تنظيف المكان من الأوراق وسيقان الأشجارالمتساقطة في فناء المبنى والشارع الخدمي من دون انتظار شركات التنظيف. كانت الكهرباء لا تزال مقطوعة. ذهبتُ إلى مقهى دومينو في الشارع الثامن( كايو أوتشو) ووجدت مجموعة من الموسيقيين يغنون وهم يعزفون الرومبا لإعادة الحياة إلى هافانا الصغيرة.
في الليل ، بدأت الأضواء تستعيد بريقها في مباني حي بريكل الثري بينما بقيت غائبة عن الأحياء الفقيرة.
قال الناس إن المناطق الغنية لها الأولوية في كل شيء ، لذا فإن إعادة الكهرباء إلى بريكل قبل هافانا الصغيرة أمر طبيعي في مبادئ الرأسمالية. بعد أسبوع ، عادت الطاقة الكهربائية إلى الشارع الثامن، لكنها جاءت ضعيفة.
عادت الحياة إلى طبيعتها في هافانا الصغيرة ، حيث الموسيقى والغناء والسيّاح والطعام الكوبي. عاد المشردون إلى الشارع لكي تكتمل هويته.
بعد الإعصار ، لم تعد سارة موجودة في متجر ( سفن إيلفن) في الشارع الثامن, ولم يعد المتجر جميلاً كما كان.
في هافانا الصغيرة، تواصل سيليا كروز الغناء عبر التسجيلات، وفي صوتها جغرافيا وتاريخ كوبا. لا يزال صوتها حيّاً يبني جسوراً غير مرئية بين المهاجرين الكوبيين وأرضهم الأصلية. التغييرات التي حدثت بعد إعصار إيرما في الشارع الثامن تكمن في ظهور واضح للثقافة الكولومبية. كأس العالم في روسيا ، يونيو 2018 جلب الكولومبيين إلى المطاعم الكولومبية, مثل مطعم سان باتشو لمشاهدة فريقهم الوطني لكرة القدم. أصبح اللون الأصفر مهيمناً في الشارع الثامن لأن الكولومبيين يشاركون بمنتخب وطني قوي في المونديال، في حين أن الكوبيين لا يهتمون كثيراً بكرة القدم.
في الشارع الثامن تتبختر الديكة إلى جانب عدد من الدجاجات وفراخها, يمشون معاً بأمان في كل المساحات, وهذه المخلوقات جزء لا يتجزأ من هوية الشارع.