الكاتب ومنفى الوطن :
الأدب المقارن له أساسياته وضوابطه، لكن أيمكن المقارنة والمقاربة من جانب لا تقارب فيه وإن كانت أوجه التشابه كثيرة ومتعددة فعزيز نيسين كاتب مبدع ومتنوع كما عبد الكريم العامري وكلاهما تعرضا للنفي داخل حدود وطنه والنفي هنا كلمة لا يراد بها الإحساس بالاغتراب بقدر ما هو تعبير لفظي لما تعنيه الكلمة فعلا، فقد تعرض كاتبانا إلى النفي داخل وطنيهما الأول إلى بورصة والثاني إلى السليمانية شمال العراق وهو نفي مشمول بقلة الزاد وضعف المقدرة، والتهمة خيانة الوطن فالنفي داخل الوطن هو اعتراف ضمني أنك لا تشكل خطرا على هذا الوطن وإن كانت تهمتك توحي بذلك. ودليل الإدانة هو الكتابة والإبداع وكلاهما عاشا ظروفا صعبة وتشردا عن ومع أبنائهما وإذ نعرض للأول من خلال كتابه ذكريات في المنفى فكتابات عبد الكريم العامري كلها ذكريات لماض قاس ربما لا يتم رصده من خلال كتاب معين لكنه متناثر بعدد مقالاته وبرامجه وكتبه ومسرحياته.
عزيز نيسين الكاتب الساخر :
“ذكريات في المنفى” كتاب يسجل لمحاكمة ونفي عزيز نسين بتهمة الطعن في مصلحة البلاد العليا، الكتاب يتكون من 112 صفحة يستهلها المترجم عبد اللطيف عبد الحميد بمقدمة تقربنا أكثر من فكر عزيز نيسين وطريقته في سرد الأحداث وأهمية هذا المؤلف من بين مجموع مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة وقد أبرزه لنا ككاتب يحمل هموم بلاده بشكل كبير كما أنه يكتب لتسجيل التطورات التي عرفتها تركيا بأسلوب سهل ومتعمق في نفس الوقت ساخرا من نفسه في كثير من الأحوال.
يقول المؤلف في تقديمه لكتابه:
(إن الذكريات المقدمة لكم ، إنما هي جزء من حياتي الحقيقية. ولن أقول أن أشهر المنفى بقيت في ذاكرتي كشيء صعب و ثقيل جدا. لأن ما غاص في عمق الماضي هو أكثر مرارة، وتشبه التمرة التي على الغصن التي تزداد حلاوة مع مرور الزمن).
الكتاب يبدأ بتصوير وصول الكاتب لمدينة بورصا التي نفي إليها وصولا يتزامن مع استقبال شخصية مرموقة ولعل تأخرها كان السبب في تواجد السجين المنفي المكبل بالأصفاد والحامل لرزمة على ظهره وكأنه آخر المجرمين والناس تشير إليه وكأنه سفاح تركيا وقد حلق شعره، ولباسه لا يشعره بأية قيمة، حتى إنه خجل من أن يجيب الضابط الذي سأله عن مهنته، حيث كان شكله أقرب لكل المهام الخارجة عن القانون إلا كونه كاتبا ومعبرا عن رأي.
وتبدأ رحلته في المنفى في فندق صغير تنعدم فيه كل سبل العيش ويكون ملزما بدفع
تكاليفه وتكاليف المعيشة هناك مما أجهز على نقوده في وقت وجيز ما يلزمه بالبحث عن عمل دون التفكير في تخطي حدود المدينة، حيث يبدأ سلسلة من اكتشافات للطباع هنا خاصة بعد أن عرفوا من يكون فصار كالمصاب بالجرب، الكل يهابه ويهرب منه فهو منفي ولا احد يبحث عن تهمته فهو خارج عن القانون ومن يقترب منه فإنه بلا شك سينال نفس المصير حتى أصدقاؤه المقربون، فلم يجد كاتبنا بد من البحث عن وظيفة كي يسكت جوعه وحتى إن فشل استعاض عن ذلك بقراءة الكتب لعله ينسى.
ويسرد لنا عزيز نسين في كتابه مجموعة من المواقف المضحكة والمحزنة أيضا بنوع من السخرية .
الجزء الأخير من المذكرات حاول الإجابة على السؤال المهم جدا
لم تم نفي عزيز نسين ؟
هنا يسرد لنا المؤلف فترة تاريخية من تاريخ تركيا بعد أن بدأت المساعدات الأمريكية تتدفق على البلاد تحت ما سمي بمبدأ ترومان حيث تعمد نشر مقالات
دون ذكر اسمه في احدي المجلات والتي تعرضت للمصادرة واعتقال صاحبها مما جعل كاتبنا يفكر في كتابة كراسة أسماها “إلى أين نسير؟” كراسة لم يكمل طباعتها بعد ولا يدري مصيرها بعد ذلك لكنها كانت في نظر السلطة فكرا منافيا للمصلحة العامة للبلاد وهنا يسرد لنا المؤلف مقتطفا من التحقيق معه:
– أما هو فازداد غضبه وصرخ -هل تريدنا أن نصبح كلابا روسية؟
أجبته فورا وبكل هدوء – أولا ليس من الضروري أن تصبح كلبا ..وإذا أردت أن تكون كلبا، فما الفرق بين أن تكون كلبا أمريكيا أو روسيا ؟ فمن يطعمك أكثر فهو صاحبك ….
– خذوه
وهكذا حكم على عزيز نسين بالسجن ثم النفي، وكما يقول في خاتمة كتابه أنه بهذه الفترة فقد أشياء عدة، عمله، واستقراره الأسري، وبيته لكن فترة المنفى ظلت عالقة بفكره وبأناس قابلهم هناك وربطته بهم صداقات وعلاقات متميزة..
عبد الكريم العامري مبدع لا يجيد الفرح :
*نحن من أكثر شعوب العالم نحلم، كل حياتنا أحلام، وأنا واحد من هذا الشعب الذي يحلم، بدأت أحلامي منذ أن بدأت أعي الأشياء، يوم كانت الحياة بحجم آمالنا والدنيا بحجم قلوبنا.. حلمت أن أحقق شيئا للإنسانية، اترك أثرا في الناس، وفي الكون.. وكلما اقترب حلمي أصابتني نكبة، من نكبة حزيران إلى نكبة احتلال بغداد، لم تتحقق أحلامي، لكني ما زلت أحلم ..وأحلم..وأحلم فلن تنتهي دورة الأحلام.*
هكذا أجابني عبد الكريم العامري من خلال حوار أجريته معه قبل سنوات، كلمات مخضبة بالأحلام المجهضة لكن قبل أن نكمل عرض أفكار هذا المبدع المتفرد
من هو عبد الكريم العامري ؟
هو الكاتب والإعلامي المتعدد إبداعيا
من مواليد البصرة – الفاو (جنوب العراق) 22 أيلول 1958
صدر له:
“الطريق إلى الملح” رواية دار الشؤون الثقافية وزارة الثقافة العراقية – بغداد 2000
“عنبر سعيد” رواية..
“لا احد قبل الأوان” مجموعة شعرية- جامعة البصرة 1998
“مخابئ” مجموعة شعرية – البصرة- العراق 2000
مسرحيات (كتاب شمل معظم مسرحياته التي قدمت داخل العراق وخارجه).
كما امتهن الإعلام في عدة منابر عراقية مرئية ومسموعة ومخطوطة قبل أن يحط الرحال الآن كرئيس تحرير لمجلة بصرياثا الثقافية الأدبية و معد ومقدم بقناة الجنوب على موقع اليوتوب والتي عادة ما تهتم بالمواطن البسيط وتظهر العشق المتفرد لهذا الكاتب لمدينة البصرة والعراق عموما فهو مدرك لقيمة الإعلام الهادف حيث صرح لمدونة هوس الحلم في حوار سابق قائلا :
– للأسف الشديد المثقف العربي بعيد جدا عن طموحات الجماهير أنا أتحدث عن تجربة العراق فالنخب المثقفة بعيدة كل البعد حتى في أنشطتهم الثقافية هم بعيدون، لكن هناك استثناءات وهي عادة فردية تخرج من هذا الأديب أو المثقف أو ذاك.. لكن الإعلامي دوره أكبر من ذلك لأنه يعيش الوضع ساعة بساعة وينقل تقاريره ويقول رأيه أيضا إذا استدعى ذلك وبالنسبة لي والحمد لله أديت دورا رغم أني غير مقتنع به من خلال المقالات والتقارير الصحفية إلا أنها لا ترتقي لدماء الشهداء التي نزفت على أرض العرب.
لمَ نُفي عبد الكريم العامري ؟
العامري لم ينف بل هُجِّرَ قسرا رفقة عائلته، نفي من نوع آخر، رحل وبداخله حروبه التي لم يشعلها أبدا حيث يقول في قصيدة جمعٌ من الخسارات:
( للآن تحمل دخان حروبك..
الحرب التي اشتعلت بعيداً انتهت بداخلك..
يهزّك صهيل خيولها في صدرك، ويؤلمك نقر حوافرها..
حملتها معك، في السجون التي وطأتها قدماك، والمدن التي غيّبتك سنيناً..
في بغداد، خبّأتها بجيوبك..ورافقتك من (ساحة الميدان) حتى آخر بار في شارع أبي نواس..
تحت شجرة زيتون أو في شقة مفروشة للسيدة الثرثارة ماري..
حربك معك، حين لم تجد شيئا يشغلك تشغلك..
ضحيتها الأزلي أنت..
تتبعك مثلما يتبعك المولعون بكرهك.).
حسب تصريح العامري ردا على سؤالنا حول الموضوع قال :
(في ظل وضع اتسعت فيه سلطة الميليشيات وغاب القانون الذي يؤمن للناس حياتهم، تم تهجيري من مدينتي الجنوبية (البصرة) إلى شمال العراق (السليمانية) كان ذلك عام 2006 يوم بدأ المد الطائفي يتسع وﻷني ﻻ استسيغ تلك المسميات الطائفية وأعمل لمصلحة الإنسان بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الإثني الديني والطائفي، من خلال برنامج تلفزيوني أقدمه من شاشة قناة الفيحاء الفضائية عنوانه (نسخة منه إلى…) وهو برنامج ناقد للظواهر اﻻجتماعية السلبية، أرادت بعض الميليشيات المسلحة وﻻ أعرف مدى ارتباطها بالحكومة آنذاك ﻷن هناك من كان يقول إن عمليات التصفيات الجسدية تقوم بها عناصر مجرمة ترتبط بالسياسيين، أرادت تلك العصابات إسكات صوتي وهكذا فعلت وأرسلت لي تهديدا مخطوطا واتصاﻻ هاتفيا طلبت مني الخروج بعائلتي خلال 24 ساعة وإﻻ ستكون جثتي في القمامة…هربت رغم استنجادي بالحكومة اﻻ أنها لم تفعل شيئا…هذا ملخص لما حدث وعندما استفسرت من دائرة اﻻتصاﻻت عن الرقم اخبروني أنه غير مسجل لديهم!…).
نيسين والعامري ونقاط تماس : الساخر والساخط :
كاتبان من وسط المثقفين الأول عسكري برتبة ضابط والثاني إعلامي مع استقرار أسري واجتماعي لم يمنعهما من البحث عن حياة أفضل لمن حولهما، يكتبان، يعبران عن رأيهما فيصدر الحكم فعزيز نيسين كان جريئا وهو ينشر مذكراته ساخرا حتى من نفسه وهو ضابط في الجيش المتعمد لتغيير اسمه تمويها للآخر، والمتحرر من قوانين الالتزام العسكري من أجل التعبير عن رؤياه المختلفة إلى مجرم محكوم عليه بالنفي يمشي بين دركيين في لباس مترهل وحاملا لحزمة ملابس على ظهره ومع ذلك يقلد خطوات مرافقيه ويمشي في شارع رسمي جهز لاستقبال ضيف آخر فكان من نصيبه أن تكون بورصا كلها في استقباله في أول يوم فيها كمنفي بتهمة الخيانة العظمى للبلاد مفارقة غريبة فعلا. لكن العامري كان أكثر مغامرة بالإبقاء على اسمه الحقيقي لذا حتى النفي جاء مختلفا شيئا ما فالأول يبعد عن مدينته وأسرته بقرار عسكري والثاني يتلقى تهديدات بالقتل فيهجر قسرا رفقة عائلته إلى شمال العراق فكان الأول ساخرا والثاني ساخطا حتى ساعات الفرح خذلته على حد قوله …
——
المصدر: جريدة الديار اللندنية الأحد, 26 تموز/يوليو 2015
عزيز نيسين _عبد الكريم العامري وجهان لأدب المنفى \ليلى مهيدرة\ المغرب
—