فيصل عبدالحسن*
كان صوت الشيخ عبد الباسط السبب الحقيقي لانتشار المذياع في بيوت محلتنا الصغيرة في الرباط الكبير في مدينة البصرة في الخمسينات. وأتذكر وإنا صغير صوت المقرئ الشيخ يعلو من البيوت التي تمتلك مذياعا، من نوع فيلبس، وماركات أخرى، التي تعمل على البطاريات منذ الصباح الباكر. ومن عادة أهلنا في هذه المدينة الصغيرة القريبة من مدينة العشار، مركز مدينة البصرة، رفع صوت المذياع إلى أخره ليسمع ممن ليس لديه مذياع طلباً للثواب.
وكان صوت ذلك المقرئ يبعث في النفوس رهبة ورقة قل مثيلها، وكان هذا غير محصور ببيوت محلتنا القليلة فقط في ذلك الوقت بل كان ذلك ما يفعله جميع أصحاب المقاهي، والدكاكين في سوق الهنود، والطريق إليه، وعلى ضفاف شط البصرة، قبل أن يصب بشط العرب في صباحات البصرة الناعسة في تلك الأيام. ذلك التسجيل كان يحمل بصمات العهد الملكي، فقد سجل بصوت هذا الشيخ خلال معزى الملكة عالية زوجة الملك غازي (1911-1950) وأم الملك فيصل يرحمهم الله جميعاً، وكان قد رتله في الحضرة الكاظمية المشرفة، في بغداد وكان ذلك التسجيل هوالمحبب للإذاعة العراقية، لتبثه في ذلك الوقت للشيخ عبد الصمد.
كانت حيوية المقرئ الشيخ عبد الصمد فائقة، إذ لم يزل في العشرينات من عمره، وكانت طريقته في الأداء لا مثيل لها بين القارئين، وهو في أوج عطائه الصوتي، والروحي، ومحاولته أثبات أن صوته هو الأفضل، وفهمه الأتم لكل شروط التجويد القرآني. وكذلك بدا صوته متأثراً بالمصاب الجلل ” وفاة الملكة الشابة ” التي يكن العراقيون لزوجها الملك غازي أعمق مشاعر المحبة، لوقوفه الدائم مع قضية التحرر من الانجليز، وميله لتأييد قضايا الكفاح الوطني في الدول العربية، وقد أضافت ميتته الدراماتيكية، بحادث السيارة المعروف، الشعور العام بالحزن لمصير عائلته. وقد أتاح صوت هذا المقرئ للروح الباحثة عن السلوى في كلام الله تعالى، والمجبولة على مصابات آل البيت عليهم السلام من مصائب وأحزان، كل الاتفاق المطلوب بين السامع والمسموع. فكان صوت المقرىء أضافة حقيقية لكل تظاهرة ثقافية، أوأمسية تراثية أو سياسية في البصرة في ذلك الوقت، وكان القراء يقلدون ذلك الصوت الساحر، وهم يتلون الذكر الحكيم بداية كل أحتفال أو مناسبة ثقافية. كل ذلك يعود مرة واحدة للذاكرة، حين تقرأ اليوم وأنت على هذا البعد المكاني عن البصرة، ومجالسها الثقافية ومسامرات أدبائها.
ما أثارته السيدة ” فائزة ابنة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد”من ذكريات عن والدها الشيخ، في حوار نشرته مجلة نسائية عربية قبل أيام قليلة، مذكرة بأبيها الذي أذهل أجيالا بمعجزة صوتية، قلت مثيلاتها في ثقافة الأذن والسَّماع وهو يرتل القرآن الكريم ويجوده تجويدا قل مثيله.
وقد نقل إلى أسماع العالم معجزات الآيات القرآنية، ووضع شيئاً من المعجزة اللغوية في آذان من لا يقرؤون القرآن، وتركوه مهجوراً، وهو يرتله بصوت رخيم، ويجوده بأحكام، لم تسمع مثله الأسماع من قبل، والذي ستحل في نهاية شهر نوفمبر القادم ذكرى وفاته الخامسة والعشرين، (1927-1988).
والمدهش في حياة هذا الشيخ، أنه ظهر وسط عمالقة من قراء القرآن الكريم كانوا، يرتلونه من خلال الإذاعات قبله، كالشيخ عبدالفتاح الشعشاعي والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبدالعظيم زاهر والشيخ أبوالعينين شعيشع وغير هؤلاء من قراء الرعيل الأول المجيدين بالإذاعة المصرية. والذي يذكرنا أيضا بأن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ له كل الأسباب، لظهوره، فقد كان الطفل عبد الباسط عبد الصمد، وهو في العاشرة من عمره – كما يقول في مذكراته-يريد أن يتعلم أصول التجويد، ولكن الشيخ”محمد سليم “المقترح لتعليمه كان يعيش بعيداً في مدينة طنطا بينما كانت عائلة عبد الباسط عبد الصمد تعيش في مدينة أرمنت.
وطنطا بعيدة جدا عن مدينة الطفل، ولكن قبل يوم واحد من سفر الطفل ومرافقوه إلى تلك المدينة، أتى الله بالشيخ “محمد سليم ” إلى مدينة عبد الصمد ذاتها ليستقر فيها، ويعمل مدرساً للقراءات بالمعهد الديني بأرمنت.
وأقام أهل المدينة للشيخ محمد سليم “جمعية للمحافظة على القرآن الكريم” فكان يحفظ القرآن ويعلم علومه والقراءات فيها، فيقول عبد الصمد ذهبت إليه، وراجعت القرآن كله ثم حفظت الشاطبية، التي هي المتن الخاص بعلم القراءات السبع.
وأتساءل هنا أليس هذا إعجازاً إلهياً لمن يريد أن يرى إعجازاً معاصراً ؟! اقصد انتقال الشيخ محمد سليم إلى مدينة الطفل الموهوب في يوم واحد قبل سفر الطفل إليه، واستقرار الشيخ فيها على مقربة من تلميذه ليتم المطلوب الإلهي ؟ ! نعم تذللت الصعوبات عندما هيأ ربك تعالى الأسباب لصاحب هذا الصوت الساحر، الذي أمتاز بالرخامة وعذوبة وصفاء طبقاته الصوتية.
وهيبته الخاصة في التلاوة والتجويد وتفخيم الحروف، ليكون في خدمة كتاب الله العزيز، ويوصل لمن هجره، وجافاه، صوته بشكل راق، عذب كالأنهار الجارية، وسط الوديان الخضراء، الهادئة، التي لا يعكر صفوها شيء، ويذكر الإنسان بالتقصير وقصر الطريق، وقرب المآل. لقد ذكرتنا كريمة الراحل الكبير السيدة فوزية بمحطات والدها، محطة محطة، فقالت عندما بلغ والدها الثانية عشرة من عمره حتى انهالت عليه الدعوات من كل مدن وقرى محافظة قنا، وخاصة “أصفون المطاعنة ” .
وبمساعدة من أستاذه الشيخ محمد سليم، الذي كان دائم التزكية له في كل مكان يذهب إليه الصبي الموهوب، وكانت شهادة الشيخ سليم محل ثقة من الناس جميعاً في مصر كلها وقتذاك.
وقد انتقل بعدها للقراءة في ضريح سيدتنا زينب الكبرى ابنة علي بن أبي طالب عليهم السلام جميعاً، في مدينة القاهرة في ذكرى ولادتها المطهرة، حيث استقر هو عائلته في هذه العاصمة الكبيرة.
وفي عام 1950 زار العراق وحرص على زيارة أضرحة آل بيت رسول الله صلى الله عليهم وسلم، وقد قبل في الإذاعة المصرية عام 1951 كقارئ للقرآن الكريم.
واعتمدت تسجيلاته في الضريح الزينبي المطهر للإذاعة المصرية، ولا تزال تسجيلاته كما تقول أبنته تسجل أعلى المبيعات.
وتوفى رحمه الله تعالى بعد أصابته بمرض السكر والتهاب الكبد الفيروسي في30 نوفمبر1988 بعد عمر حافل بالعطاء، ولن ننسى ما بذله هذا الشيخ بصوته العذب في سبيل الله من خلال توصيل كلام الله تعالى، للناس وقد كان صوته سبباً كما روت أبنته في هداية الكثيرين من الأجانب. وزيادة توق غيرهم إلى معرفة الإسلام، والإيمان بعد ذلك برسالة الإسلام، بعدما افتتنوا بهذا الصوت العذب الذي ردد أعذب الكلام –كلام الله تعالى- على مر الزمان.
كل ذلك الزمن الجميل، الذي يتوهج في ذاكرة من عاشوه، يستعاد مثل الشريط ألفلمي القديم المقطع، الذي يعاد لصقه بعضه بالبعض الآخر،عند سماع سي دي، من قراءات الشيخ عبد الصمد.
حتى لو كان ذلك يحدث ليس في محلة الرباط في مدينة البصرة بل في الرباط في المملكة المغربية ذاتها، التي تقع في غرب العالم، وآخر الوطن العربي، حيث المحيط الأطلسي، وأمريكا من الجهة الأخرى للعالم.
نعم من رباط إلى رباط بعيد عنه يأتي صوته العذب الذي يلج في حواري وزنقات ودور الرباط الواقعة على مبعدة ألاف الكيلومترات عن البصرة ورباطها الكبير، وأنهارها وسواقيها، وطيبة أهلها وبركة ما يقرأ في بيوتها من القرآن الكريم. وفي جنبات مقاهيها ودكاكينها فيجعل في القلب سكينة وطمأنينة لاتستطيع اللغة مهما بلغت بلاغتها وصفها، وأسترجاع المزيد من صورالذاكرة للبصرة وأستعادة أصوات تلاوة القرآن الآتية من شرفات شناشيلها ودورها في الأصباح والأماسي.
*كاتب وصحافي
faissalhassan@hotmail.com