(لمناسبة معرض البصرة للكتاب)
كاظم الحجاج
لسوف أستعير من (ديكنز) عنوان روايته الشهيرة (قصة مدينتين)، وأنا في سبيلي إلى التذكير بأرقى مدينتين في تاريخ التمدّن والتحضّر البشريّين. أعني (أثينا) وأعني (البصرة)..
إذ كلُّ مدينة منهما كانت تعادل أمّةً، في عصر المدن ذاك.. أولاهما في أقصى غربي الأرض، والثانية في وسط الأرض تقريباً..
فلقد قدّمت أثينا اعظم ثلاثة آباء للفلسفة البشريّة: أفلاطونَ وسقراط وأرسطو.. لم تهبط منزلة أيِّ منهم لحدّ يومنا هذا… كما هي ابتكرت المسرح كتابةً وأداءً. وأنشأت ملاحمها الاغريقية، وإن لم تكن رائدة فيها، فلقد سبقتها سومر ثم بابل بملحمتي الخليقة..
والبصرة القديمة (بصرياثا) هي امتداد أرض سومر إلى خليج البصرة، حتى البحر، الذي ارتحل منه (أوتو.. نوا.. بشتم)، الذي هو (نوح) سومر. (ونوا). هو إسم نوح في كل لغات أوروبا..
وأثينا كانت – قبل البصرة الإسلامية – رائدة الحوار الفكريّ المتمدّن. مع أنه انتكس هناك بإجبار سقراط العظيم على تجرّع سمِّ الشوكران.. إعداماً!
وما فعلته البصرة الإسلامية بابتكار مربدها القديم، هو أنها حَمَتِ الشعر العربيّ من أن يُحظر أويهان مع الإسلام.. لأن شعر وشعراء (عكاظ) حُسبوا على (ما قبل الإسلام)، الذي أهينَ بكلمة (الجاهلية).. فكان المربد بعظيميه التميميّين (الفرزدق وجرير) المحسوبين على الشعر الإسلامي لا (الجاهليّ) ، لأن البصرة كلّها كانت حاضرة الإسلام.
ومثل الأثينيّينَ، فلقد ابتكر البصريّون حريّة الفكر والرأي والجدَل؛ بل حتى مخالفة (المعلّمين الكبار) أنفسِهم، كما فعل (واصل بن عطاء البصريّ)، الذي خالَف معلّمه (الحسن البصريّ). بل هو اعتزل مجلس معلّمه إلى مجلسٍ آخرَ خاصٍ بواصل وأتباعِه..
كما خالف الشاعر البصريّ العظيم (أبو نواس) ذلك (التقليد) البدويّ، الذي يوجب الوقوف على الأطلال، مع ابتداء كلّ قصيدة، ساخراً من الواقفين: لماذا لا يجلسون على الأطلال؟!
بل اجتهدت البصرة وجدّدت حتى في التصوف البغدادي – العبّاسي، الذي كان ذكوريّاً كلّه، فظهرت (رابعة العدويّة) متصوفة أنثى، بل هي تجرّأت على أن يكون معشوقُها الإلهَ نفسَه وليس بشراً ذكراً! فهي قد هذّبت الغزلَ، بل هي قدّسته.
وكانت مدرسة النحو البصريةُ على خلاف منافستها مدرسة الكوفة، إذ قادت النحوَ بالعقل، لا بالنقل، حتى لقد قلّدتها مدرسة بغداد الناشئة، في ما بعد..
وابتكر جدّنا (الجاحظ) الموسوعيّة والتعدّدية الأولى في المعارف، بدل التخصّص، فكتب وأجاد (في كلّ شيء)!..
وابتكر البصريّون (المكتبة العامّة) الأولى، إذ بالغوا في نسخ الكتب المخطوطة ونشرها بين العامّة، بعدما كانت المخطوطات الثمينة حبيسة في قصور الأمراء والوجهاء تُهدى إليهم بثمن باهظ..
وإذا كان أبو نواس قد سخر من وقوف الشعراء على الأطلال، فإنّ نحيل البصرة العملاق (السياب) قُدّ من قافية الشعر، التي هي (قفا).. وكأنه قال لنا: لماذا لا يكون الشعر وجهاً كلّه، بلا قفا؟!
ألف سلام على بصرة العرب والمسلمين والعراقيين..