بقلم /جاسب عبدالمجيد:
عندما أتذكر المعقل تتجمع كل الصور في مخيلتي دفعة واحدة ..تتشابك الذكريات .. وتحملني دراجات عمَال الميناء الصفر إلى حيث أُريد .. هناك في حي طارق .. كانت بيوتنا من قصب , و كانت أحياء الأبلة والكندي وحطين على” مرمى بصر”.. كنَا نُسَمي تلك الأحياء بالقصور , لأنها مبنية من مادة الطابوق .. عندما كنا صغارا في هذه المنطقة الشعبية , لم نكن نفَرق بين الأهل و الجيران ,وكان رجال الدين يقدمون لنا دروسا في الحُب .. غرسوا في أذهاننا أن الحُبَ أساسُ الدين .. تحدثوا لنا عن كنز لا يفنى ..عن الابتسامة ..علَمونا عندما نكسب في الألعاب التي كنا نمارسها مثل ” الجعاب والدعابل ” أن نُعيد ما كسبناه إلى الخاسر. بعد أن انتقلنا من بيوت القصب إلى “القصور ” لم نتغَير ..كنَا نبتسم دائما .. لأن رجال الدين خوفونا وقتذاك :إن من لم يبتسم أمام ضيفه وجاره وصديقه ووو.. ليس له أي مكان في الجنة “..
حفظنا الدرس جيدا وصار أسلوب حياة .. في المدرسة الابتدائية وجدنا المعلمين حريصين على تربيتنا أكثر من تعليمنا , علَمونا كيف نُحب .. نسامح .. نتعاون ..
ذات مرة كُنَا نتجه نحو جزيرة السندباد مرورا بالمعقل مشياً على الأقدام بعد أن خرجنا من المدرسة .. قام أحد أصحابنا بقطع وردة من الحديقة فرآه الفلاَح العجوز , وعند هذا المشهد استنجد الفلاَح بطاقته الكامنة وركض خلفنا حتى قبض على صاحبنا , فشعرنا بالخوف لأننا كُنَا صغاراً ..توسلنا إليه أن يُطلق سراحه لكنه لم يستجب .
طلب الفلاح من صاحبنا أن يغرس “برعماً جوريا” في الحديقة .. علَمه كيف يغرس من دون أن يؤذيه .. هنا تحولت مخاوفنا إلى سعادة ونسينا هدفنا الأساسي ..اشتركنا في العملية وتعلمنا كيف نغرس الورد , ثم أحببناه كثيراً وأخذنا نتردد على هذا المكان ونتعلم منه المزيد من الصبر . نمت محبة الزرع في نفوسنا , وصارت العلاقة بيننا وبين الأرض قوية ..
ترددنا عليه كثيرأ نؤدي التحية ونجلب له الزاد , نشاطره تعبه الجميل ونتناول معه الطعام المعطر برائحة غرسه , ونستمتع بمطر الربيع بصحبة الورد .
ذات يوم ربيع رومانسي , هربنا من المدرسة بعد أن طفح بنا الشوق إليه , إلى يديه اللتين تداعبان التربة كأنامل عازف عاشق .. لمحناه من بعيد .. كانت إلى جانبه بائعة الحليب .. قطف لها أجمل الورود .. هذا المشهد محظور في بقية مناطق البصرة , لكنه في مدينة الورد كان مشروعاً ..وصلنا المكان بعد أن غادرته المرأة .. وجدنا على وجه عمنا الفلاح علامات فرح لم نلحظها من قبل ..
قال بما معناه : الذي يغرس الورد لا يعرف الحقد والحسد , وقلبه مشروع حب دائم ,, والقلب الذي يحب لا يصدأ .. كان شارد الذهن .. تناولنا الطعام معاً .
دارت الأيام , وفي ويوم لم يكن في الحسبان أراد الجيش أن يستعرض بعض ما لديه , فحرك قطعاته , كانت بعض الدبابات تسير على سرفاتها ,, لم يكن أحد من هؤلاء العسكر يعلم أن ذلك المشروع الأخضر الذي يمتد من المعقل باتجاه السندباد يمثل وطنا لشخص ما .. داست الدبابات بسرفاتها كل الزرع وحطمت كل أغصان الجوري .. كان الفلاح يتابع المشهد ووطنه يموت تحت ناظريه ..كان يسمع صراخ الورد و أنين التربة ..خفق قلبه بقوة .. اضطرب نبضه و ….. “منذ أن مات الورد في المعقل تراجع الحُب وتراجع التسامح وتناقص الصبر ..
ملهمتي وملاكي .. تعالي معي إلى المعقل ..نعيد أمجاد ذلك الفلاح البصراوي .. نغرس الورد , لكي تعود الحياة بعطرها الفواح , فالمعقل نبض البصرة , وعليك أن تعرفي أيضا أنني أخاف على قلبي من الصدأ .
تعالي .. أعدك بأنني سأهديك أكثر من وردة , لكن عديني بأنك ستغنين معي هذه الأغنية.. وعندما نتمكن من ترديدها بصوت عال سيتعافى الوطن ..