( جزء من القصة )
* جبار بچاي
كانت نظراتُ القديّسة هيلين عادل ( اسم مستعار ) وصمتها المتبوع بحسرة ثقيلة كافية للإجابة عن تساؤلاتي بشأن ظروف اختطافها ؛ أنا القادم من الجنوب الى معبد ” لالش ” في قضاء الشيخان ( 60 كم ) شمالي الموصل ، المعبد الوحيد والمقدس للديانة الايزيدية في العالم .
ويطلق الايزيدون ( قديّسة ) على المرأة التي وقعت سبيّة ( مختطفة ) عند داع ش ، وبعد تحريرها ( ناجية ) يكنون لها الاحترام والتقدير ، ويرغب أغلب الشباب الزواج من القديّسات إكراماً واحتراما لهن ، وهناك 70 من الشباب تزوجوا ناجيات وفق إحصائية ذكرها مدير عام شؤوون الايزيدية في وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في الإقليم خيري بوزاني.
يبعدُ المعبد عن مركز قضاء الشيخان نحو( 9 كم ) وله طريق واحد تظهر على يمينه شعلة غاز يحترق ، وهناك منشآت تعنى بالصناعة النفطية الى جوار الشعلة التي تختفي خلف الجبل وأشجار الزيتون ثم تظهر ثانية كلما غيّرت المركبة اتجاهها مع الطريق الملتوي .
ويعد وجود الغاز من المُسببات التي جعلت قضاء الشيخان التابع إدارياً الى محافظة الموصل من المناطق المتنازع عليها بين الإقليم والمركز.
من مسافةٍ بعيدة نوعاً ما وفي الطريق الى المعبد المقدس عند الايزيديين خلعتُ حذائي ، وأنا أهم بالوصول الى بوابته حذراً من العتبة التي ينبغي عبورها دون أن يدوسها الزائر بقدمه ، إصطف جواري خمسيني كان يبيع ما يشبه الاكسسوارات ، وقبل أن يعرض بضاعته أمامي ، عرض الرجل همومه خلسة ، فتيقنت ان البسطاء من العراقيين يشتركون في الكثير من العادات ومنها أساليب الحصول على المال بعد أن تشظى وزاد الفقر بينهم بسبب السياسيات الخاطئة .
ساعتان ، الوقت المحدد لنا في المعبد ، غير كافية لمعرفة مدلولاته المكانية والروحية لكنها أعطتني صورة بسيطة ومعرفة أشياء كنت أجهلها عن الايزيديين الذين يُعتقدُ البعض وفق فهمهم الخاطئ والمشوّش أنهم من أتباع يزيد بن معاوية ( كفار ) وهذا أكبر مؤشر ومنحدر خطير لتهديد التنوع المجتمعي وهناك من يحاول تسويقه مستغلين الجهل وعدم فهم الديانة الايزيدية التي بدونها يبقى مركب التنوع العراقي في خطر.
في أحد الفضاءات المكانيّة للمعبد توفرت فرصة الجلوس بين عائلة كانت قد هيأت طعام الغداء الذي لا يختلف في الغالب عن الطعام الذي تعده نسائنا نحن المسلمين، وأمام اصرار تلك العائلة المفرط بالطيبة والكرم على تناول الغداء معهم راوغت كثيراً بأعذاري واكتفيت فقط بقدح ماء والتقاط صورة للذكرى لأن المفهوم الخاطئ والهووس السائد عن هذه الديانة مازال يعشعش فينا ، لهذا هناك ضرورة قصوى لوجود برامج معرفية وثقافية مكثفة لرفع تلك الغشاوة .
” أنتم أهل الجنوب صلبين حيل وشجعان، هكذا عرفناكم في تحرير مناطقنا ” تقول القديّسة هيلين ذات الأقدام القطنية الناعمة وهي تسير حافية بين فضاءات المعبد، وتضحك مع صرخاتي آخ آخ .. آخ كلما داست أقدامي الخشنة على حصاة صغيرة فينبتُ جزء منها بين أصابعي أو في باطن القدم .
تحتاج مجتمعات التنوع الديني والأثني في العراق الى فهم عميق مع ضرورة وجود إطار وطني حاكم لحقوق الأقليات ، ويحتاج مجتمع الايزيديين والناجيات على وجه الخصوص الى الكثير من التشريعات لتكون عناصر مواجهة لمحو آثار اختطافهن .
* صحفي عراقي