كتب معد فياض
قبل 31 عاماً أحدث العراق زلزالاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، قادت احداثه الى عدم استقرار البلد حتى اليوم. اذ تفاجأ العراقيون ببيان عسكري اذيع عبر محطات التلفزيون والاذاعات صباح الثاني من آب عام 1990، يُعلم الشعب بغزو الجيش العراقي والحرس الجمهوري، للكويت و”بعودة الفرع الى الاصل” حسب البيان.
ولا يخفى على أحد بان هناك غالبية من العراقيين ممن اعرب عن سعادته دون قراءة المشهد الراهن والمستقبلي بصورة واقعية، وهناك من عانى من الصدمة جراء هذا التصرف العسكري المر.
كنا قد خرجنا بمحض الصدفة والقدر أحياء من حرب دامية ومدمرة مع ايران استمرت 8 سنوات (1980-1988)، بـ”وهم النصر”، بينما كانت لافتات التعازي السوداء للجنود القتلى ما تزال مثبتة على جدران المدن العراقية من اقصى شماله وحتى ادنى جنوبه، وكنا نعرف ماذا تعني الحرب وما ستؤول اليه كارثة “عودة االفرع الى الاصل” راهناً ومستقبلاً، وكان علينا ان نرتدي “الخاكي” مجدداً بعد استراحة لم تدم طويلا استعداداً للقتال في “أم المعارك”، حسب التسمية الرسمية العراقية، و”عاصفة الصحراء”، حسب التسمية الاميركية او قوات التحالف التي شاركت بتحرير الكويت.
هناك من يعتقد بأن قرار غزو الكويت جاء كردود افعال من قبل الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وأن هذا القرار اتخذ بعجالة، لكن اية قراءة متأنية للاوضاع واستعادة للبيانات الرنانة التي كان يرددها مذيعو الاذاعة والتلفزيون العراقي، كان يدرك ان النظام قد قرر غزو الجارة الجنوبية، وهنا سأدرج بعض االحقائق كشاهد عيان للاحداث بمناسبة هذه الذكرى القاسية على الكويتيين والعراقيين في آن واحد.
عندما عقدت القمة العربية ببغداد في 28 آيار 1990، كنت مراسلا لصحيفة عربية تصدر في لندن، التقيت بصحفي سعودي معروف، حيث طلب مني ان نخرج من فندق ميريديان وسط بغداد، حيث كانت اقامة الوفود الصحفية المرافقة للقمة، لنتمشى بالقرب من نهر دجلة في شارع (ابو نؤاس) خشية ان يتم تسجيل الحديث كونه كان متأكدا من وجود لاقطات سرية في غرفته، وباغتني بالسؤال “باعتقادك لماذا لم يحتل صدام حسين الكويت خلال الحرب مع ايران”، سألته “وهل يفترض ان يحتلها؟ هل هناك سيناريو لاحتلال العراق للكويت؟”، اجاب مؤكدا “نعم، واذا قرأت كلمة صدام حسين في مؤتمر القمة عن الغدر والديون والكاميرا مسلطة على أمير الكويت، ستتأكد بان السيناريو قيد التطبيق”، وأردف موضحا “خلال حرب العراق مع ايران كان من المتوقع ان يحتل صدام الكويت بمبرر ان الجيش العراقي يدافع عن الخليج العربي، وأن العراق بحاجة الى اطلالة بحرية لصد الهجمات الايرانية على دول الخليج، وربما كانت دول الخليج واميركا ستغفر له هذا التصرف، ويمكن ان تعاقبه، لا ندري، لكن سيناريو احتلال صدام للكويت ما يزال قائما ولكنه سيدمر العراق اذا حدث”.
في صبيحة الثاني من آب 1990 تلقيت اتصالاً هاتفياً في بيتي ببغداد من الصحفي السعودي ذاته ليذكرني بما كان قد حدثني عنه قبل اشهر حول احتلال الكويت، مع جملة فيها من السخرية المرة بقيت عالقة في ذاكرتي حيث قال “الكويت صارت كويتكم”.
كان من الخطورة ان يفصح اي عراقي وقت ذاك عن آرائه بصراحة حول غزو الكويت، لكنني لذت بالفريق اسماعيل تايه النعيمي (أبو الشهيد)، وكان متقاعدا، حيث خدمت بامرته كمراسل حربي عندما كان قائدا للفيلق الاول الخاص بالقاطع الاوسط من جبهات القتال خلال الحرب العراقية الايرانية، ذهبت الى بيته في حي الزهور بجانب الكرخ ببغداد بعد “عودة الفرع الى الاصل” بثلاثة ايام، ووجدته حزينا على غير عادته، وكان يقول لي آرائه بصراحة لثقته بي، سألته عما يجري وما سيجري؟، قال “لم نكن نعلم بمخطط احتلال الكويت، مع ان توصيفي مستشارا للسيد الرئيس للشؤون العسكرية، انا مثلك ومثل بقية العراقيين فوجئت بالحدث”، واستطرد قائلا “هذا الاحتلال سوف يجر العراق والشعب العراقي الى نكبات وفواجع، سيدمر البلد تماما، ومن غير المعقول ان يغفر العالم لصدام هذه المغامرة، فالكويت دولة مستقلة وعضو في الامم المتحدة ولاميركا مصالح مهمة فيها فكيف يسمحون للعراق بابتلاعها”.
سألته ماذا كان سيكون رده لو طلب صدام حسين رأيه قبل الاقدام على الاحتلال؟”، قال “العمر لم يتبقى به الكثير، وتاريخي العسكري يشهد بوطنيتي، لهذا كنت ساعترض وابين اسباب اعتراضي واقول ان هذه الخطوة ستدمر العراق، لكنه لم يسألني ولم يسأل كبار قادة الجيش العراقي في جميع صنوفه”.
عندما التقيت مع حسين كامل، صهر صدام حسين في عمان، بعد ان فر اليها مع شقيقه صدام كامل وزوجتيهما، رغد ورنا صدام حسين، عام 1995، سالته ان كان غزو الكويت قد حدث بتخطيط مسبق ام كان قراراً مفاجئاً؟، قال “كيف تتصور ان حدثا كبيرا مثل احتلال بلد كالكويت يجري بلا تخطيط دقيق ومسبق، نعم كان بتخطيط مسبق لكنه تم بسرية تامة وبمعرفة اشخاص قليلين ومحدودين”.
بعد اقل من شهر من احتلال الجيش العراقي للكويت، نظمت وزارة الثقافة والاعلام لمراسلي الصحف والشبكات الفضائية العربية والاجنبية، وكنت بضمنهم، زيارة الى الكويت للاطلاع على “الاوضاع المستقرة” هناك، وكانت تلك الخطوة نوعاً من الدعاية الاعلامية للنظام الحاكم، وقد اصبت بصدمة بسبب ما شاهدت وما سمعت من بعض الاصدقاء الكويتيين، صحفيين وفنانين وكتاب، الذين كانوا يزورون بغداد في المهرجانات الثقافية والفنية، وكان احدهم الشاعر الغنائي فائق عبد الجليل الذي كتب الكثير من الاغاني لمطربين عراقيين، وكان من المقربين جدا للعراق.
كان فائق عبد الجليل مصدوما بما حدث وبما يحدث يوميا، واخذني بسيارته الكاديلاك موديل 1988 في جولة بين احياء الكويت لاشاهد بعيني كيف يتصرف ضباط وجنود الحرس الجمهوري مع المواطنين، واي خراب احدثوا بالمدينة، بينما كانت الشاحنات تنقل بضائع مختلفة من الدوائر والبيوت والاسواق الكويتية الى بغداد، وحدثني كيف ان احد الضباط قد استولى على سيارة ابنته نوع تويوتا سوبر.
في نهاية الجولة قلت له “اسمعها مني يا صديقي لا احد من المسؤولين العراقيين سيقف معك اذا تعرضت لموقف خطير، انت لا تعرفهم مثلي، ربما كانوا يستقبلوك عندما تاتي الى بغداد لانك كتبت القصائد دعما للعراق، لكنهم سوف ينسون كل شيء، لهذا انصحك ان تترك الكويت وتلتحق بعائلتك في القاهرة”، صمت قليلا وسحابة من الحزن تغطي وجهه، ثم قال “ان شاء الله”، بعد ذلك عرفت ان قوات الحرس الجمهوري اسرته ضمن 600 كويتي نقلوا الى العراق واختفوا تماما حيث تم اعدامهم جميعا.
تفاصيل ما حدث كثيرة، بعضها معلن والكثير منها بقي حتى اليوم قيد السرية والكتمان، لكن من المؤكد ان الفواجع التي حلت بالعراق والعراقيين، حتى اليوم، كانت بسبب احتلال العراق للكويت.
عندما كتبت مذكرات السياسي العراقي عدنان الباجه جي، سالته عما دار من حديث بينه وبين صدام حسين بعد القاء القبض عليه من قبل القوات الاميركية في كانون الاول عام 2003، قال “انا سألته سؤالاً محدداً، قلت له لماذا اقدمت على احتلال الكويت ودمرت العراق؟ فاجاب: سوف يكشف لك التاريخ الاحداث ويجيب عن سؤالك”.