بقلم خالد العزي
“الدون الهادئ” للكاتب الروسي ميخائيل شولوخوف، هذا الكتاب في أربعة أجزاء. الصادر عن دار ابن خلدون قرأته في لبنان في احد معتقلات المليشيات في العام 1986، صاحب الكتاب الذي شجّعني على قراءته، صديقي الشهيد اياد قصير.لم اكن اعلم بان هذا الكتاب الذي اطلعت عليه في لبنان سأعيد قرأته من جديد في روسيا بلغة المؤلف نفسها كون القصة تعتبر من أسئلة الامتحان الأساسية في دراسة الماجستير الى جانب العديد من الكتاب الروس المعاصرين في كلية الإعلام في سانت بطرسبورغ.
تعتبر مادة الأدب الروسي، إلى جانب مادة الأدب الأجنبي من المواد الأساسية في الدراسة. في نهاية الفصل الأول كان لنا موعد مع امتحان مادة الأدب، المدرِّسة التي أعطت المادة بروفيسور في الأدب، شرحتها بطريقة مميزة، حب وشغف رائع للأدب الروسي، هي امرأة مسنة عجوز لكنها مثقفة ذات شخصية قوية تفرض الاحترام، تعاقدت معها الجامعة بسبب نهاية خدمتها الفعلية في التدريس… سحبت ورقة من أوراق الأسئلة التي حملت سؤالين الأول عن تشولخوف والثاني عن بولغاكوف.
بعد استعراضي لمضمون الرواية وقراءة التفاصيل الصغيرة التي دلت على مدى المامي بكامل القصة ومضمونها وابطالها وكيف تم جمع القصة، لكني توقفت عن الشرح وقلت: دكتور هل يمكن لي أن أعرض وجهة نظري الخاصة بالقصة؟ تبسمت وقالت لي: اسمعك وهل يوجد عندك وجهة نظر؟
قلت: لماذا لم يكتب الكاتب سوى هذه القصة الوحيدة التي نال عليها جائزة نوبل في العام 1958 وتوقفت إعمال الكاتب من العام 1928؟
إذا قصة “الدون الهادئ” نشأت حكاياتها منذ قيام الثورة البلشفية قرب نهر الدون، وسكان الدون من القوازق كانوا ضد الثورة وحاربوها بكل قوة وسجلوا انتصارات كثيرة على المقاتلين الحمر لأنهم اصحاب الارض وهم متديّنون. القوازق من إتباع المذهب الارثوذكسي، عاشوا على امتداد النهر في الجنوب الروسي، ولكن في النهاية فاجأتها بطريقة هادئة، بان شولوخوف ليس بكاتب وإنما انتحل صفة الكتابة. القصة حقيقية هي مذكرات ضابط روسي ابيض كان يدونها في دفتره أثناء الحرب وقد انتهت المذكرات بإنتاج هذه الرواية الحقيقية ولكن هذا الضابط لا تنفعه هذه الرواية ولن تجلب له الشهرة فكانت هدية قدمها الكاتب للشاب بشرط إن يتزوج ابنته التي تكبر الكاتب بعشر سنوات.
اذاً المذكرات ثمن قبول الكاتب بالزواج من ابنة الضابط، بعد شهرة القصة لم نعد نرى أي شيء للكاتب لا في المجلات العلمية التي كانت تعمل على نشر القطع العلمية والأدبية للكتاب ولا أي كتاب آخر يشبه كتاب “الدون الهادئ”. فالمعلومات التي جمعتها عن الكاتب العظيم تشير الى انه بعد نشر الجزء الأول من روايته عام1928 انتشرت في موسكو شائعات قوية مفادها أن شولوخوف سطا على مخطوطة الرواية العائدة لكاتب قوزاقي قتل خلال الحرب الأهلية في روسيا، واضطر شولوخوف إلى الهروب من الشائعات التي حاصرته في موسكو، وعاش عشرات السنين منعزلاً في قرى منطقة الدون، لا يظهر في الأماكن العامة، ولا يخالط الوسط الأدبي الروسي، ولا يستقبل أي أديب أو صحافي أو زائر أجنبي.
وكل من نجح في لقائه من الأدباء الكبار، أو زاره في بيته، ندم على ذلك أشد الندم، وخاب ظنه في الروائي”العبقري” الذي كان مدمناً على شرب الفودكا والكونياك و ثملاً في أغلب الأوقات، وليس على مكتبه أي أوراق أو مسودات أو كتب. كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، لكنه لم يكن قادراً على إعداد كلمة تليق بكاتب كبير، حيث كان هناك من يكتب له الكلمة التي سيلقيها في هذه المناسبة أو تلك.
ذات مرة وبعد أن ألقى كلمة في أحد المؤتمرات الحزبية، كتب رسالة إلى عضو اللجنة المركزية ليونيد أيليتشوف يقول فيها: “سأتقاسم التصفيق معك، أنا بصفتي ملقياً للكلمة وأنت بصفتك معداً لها”. لقد حضر شولوخوف مؤتمراً حزبياً، فدعاه نيكيتا خروشوف، الذي كان يرأس الجلسة، إلى إلقاء كلمة في المؤتمر، فارتبك، ومع ذلك، صعد المنبر وقد انعقد لسانه. ثم ردد متلعثماً عدة كليشيهات أيديولوجية عن حزبية الأدب والأدب البروليتاري، من دون أن يقول شيئاً جديداً مختلفاً عن الدعاية السوفياتية. لكن ما حدث في مؤتمر الكتّاب الأوروبيين في لينينغراد من الخامس إلى الثامن من أغسطس/آب عام 1963، تحت عنوان “مشكلات الرواية المعاصرة” الذي حضره كبار الروائيين الأوروبيين، لم يكن متوقعاً قط. شولوخوف وصل لينينغراد، لكنه يقبع في غرفته في الفندق ويشرب الفودكا بإفراط، ومن غير الممكن أن يقف وراء الميكروفون، لأنه سيترنح حتماً، ويسقط أرضاً إن حاول ذلك.
حيث أشيع في أروقة المؤتمر أن شولوخوف وصل لينينغراد وسيلقي كلمة مهمة عن مشكلات الرواية المعاصرة. ولم يكن الكتّاب الأجانب على علم بذلك، ومعظمهم كان مخدوعاً بالدعاية السوفياتية التي تسبغ هالة العظمة والعبقرية عليه.وأخيراً ظهر شولوخوف على المنصة للمؤتمر، في خطابه ردد كلمة “حضرات السيدات المحترمات والسادة المحترمين، أيها الرفاق.الطقس في لينينغراد الآن حار وفظيع، أما في مورمنسك فهو بارد. لكنني أقول لكم، حتى لو انعقد مؤتمرنا هذا في مورمنسك، فإنكم ستحسون بالدفء، من دفء قلوبنا، ومن حسن الضيافة الروسية والسوفياتية. أيها الرفاق: أما ما يخص الرواية فإن هذه المسألة، غير جديرة بالمناقشة، فالرواية حاضرة… كانت حاضرة في الماضي، وستحضر مستقبلاً… شكراً لكم”.
وهكذا فإن سوء تدبير السلطة السوفياتية أدى إلى نتائج عكسية، فبدلاً من ترك انطباع إيجابي عن الأدب السوفياتي، عاد الكتّاب الأوروبيون، وقد خاب ظنهم في شولوخوف، ولم يعودوا يصدقون الدعاية السوفياتية. كانت البروفيسور تنظر إلى وجهة نظري وقدرتي على التحليل والربط بابتسامة. نظرت الي مطولاً وقالت: لقد دونت في مفكرتي نقاطاً كثيرة أخذتها منك ولفَتَّ نظري إليها، سوف اعمل على البحث عن الإجابة ويمكن أن تكون أنت محقاً ولن أجد سوى اجابتك وسوف اكتب في مذكراتي رأيك كطالب أجنبي وربما سأكتب ذلك في مقال.
المهم بالنسبة لي طرحت رأيي أمام بروفيسور شغوف ومطلع على الأدب الروسي المعاصر وحصلت على علامة رفيعة جداً في المادة لعرضي اولاً ونقاشي وتحليلي للقصة ولحياة الكاتب. لكن للحقيقة ولم تقمعني الدكتورة باستخدامها الصفة العلمية او لأنها تعلم أكثر مني بل كانت تسمع بكل احترام… بالإضافة إلى السؤال الثاني الذي سأتوقف أمامه في الجزء الثاني، طبعاً لروح معلمتي ولروح صديقي الشهيد اياد قصير السلام.
ملاحظة الكتاب مترجم بأربعة أجزاء عن “دار التقدم” حيث باتت، اغلب الهدايا للشباب التي أقدمها، مجموعة “الدون الهادئ” المترجمة عربياً في موسكو. وقد أهديت أكثر من مئة جزء للأصدقاء او للمعارف كذكرى جميلة عن روسيا تحت توقيعي…
المصدر/ نداء الوطن ، مجلة عرب استراليا