الدراسة:
تذكرة/
(عنبر سعيد) نص سردي محكم، امتاز بلغة مضغوطة لا زوائد فيها وجملة أدبية انطوت على بلاغة ممتعة، احتوت التفاعلات داخل المتن على تراكيب تراوحت بين الشعر والصور الذهنية المركبة والتصوير السينمائي.
دينامية الفواعل الجمعية/
تنوعت مواقف الشخصيات في مجمل العمل، وقد أتقن الكاتب دراستها والتدقيق في تفاصيلها المتشعبة، وقدمها بشكل فني دقيق مبرزًا متغيراتها النفسية، كما ظهر في شخصية المرأة التي تنازعتها شخصيات عدة أو أقنعة تحكمت فيها نوازعها وطموحاتها، فهي في لحظة واحدة تتناقض في تطلعاتها، إحداهما تسير وفق أهوائها والأخرى ضابطة وكابحة للانزلاق في سلوك منتهاه الندم، تصاعد الصراع النفسي بين تحقيق الرغبات التي يرافقها انتقاص الكرامة إلى التحدي والتحكم بتلك الاندفاعات.
ثم في لحظة تجلّ تقرر الانعتاق من هذا التذبذب والتخلص من الضعف، ومحاولة إعادة الثقة بشخصية أخرى اطلعت على خفايا كثيرة.. تنتهي المرأة (غير المسماة) بشخصية أخرى إذ استغلت سذاجة الآخرين وما تكشف لها من أسرار مهنة (الشيخ)، فتقرر سلوك طريقه وامتهان صنعة الشعوذة، منتقلة من شخص (مضحوك عليه) من قبل شخص محدد إلى آخر (ضاحك) على الآخرين، وتغدو عرّافة (شيخة) تبيع تجارة الدجل، مستغلة النسوة البائسات لتفريغ شحنات أجسادهن النارية، والانفتاح على مجتمع الرجال لإشباع رغباتهم مقابل المال والنشوة.
كما حاولت التقرب إلى (عنبر سعيد) كاشف سرها مع الشيخ، فأقدمت على البحث عنه وتكلل مسعاها بالعثور عليه، عارضةً نفسها (روحًا وجسدًا) وتعاهده على أن تكون معه وله وحده، وتسبغ عليه ما يطمئنه على علاقته بها بأن تكون إنسانة جديدة مكتنزة بالوفاء.
لكن (عنبر سعيد) يجنح برؤيته باتجاه آخر، فهو يأخذ المتعة الجسدية منها في لحظات محدودة، وعينه على قادم الأيام، إذ سيطرت عليه رغبة الانتقام والتخلص ممن تسبب له في ضياعه (الشيخ)، مجترحًا حلاً فرديًا لم يفضِ إلى نتائج تنعكس على المغفلين وتنوّر عقولهم.
دلالة العنونة/
تطالعنا ثريا النص (عنبر سعيد) منفتحة على تأويلات عدة، وهو تركيب من مفردتين (عنبر ) و(سعيد)، وقد وسم بهما الكاتب شخصيته الرئيسة التي انبنى عليها العمل وشاركته شخصية (المرأة) الحضور وساندته تفاعليًا، فضلاً عن شخصية (الشيخ).
فيكون هذا الخطاب سيريًا يدوّن وقائع حياة شخص يدعى (عنبر سعيد). وقد يجنح التأويل إلى دلالة المفردتين ومدى تطابقهما مع واقع حال (عنبر سعيد)؛ فإن العنبر هو نوع من الطيب زكي الرائحة يدخل الراحة لمن يستنشقه، فإذا استقر رأينا أن نقرنه بالإنسان؛ فهو تشبيه بليغ عن صفة محببة تلقى الرضا لدى الآخرين.
والعنبر يوحي بطيبة مصدره، لأنه صاحبه سعيد بما يفوح منه ويدخل السعادة على نفوس الآخرين. لكن هذا العطر الممزوج بالسرور يقبع في واقع مفعم بالتعاسة، فهو متعب ومعدم الحال يتشغل حوذيًّا، وقد جارت عليه الظروف بسبب نزق (الشيخ) الذي انتزع منه حبيبته، وتسبب بتغربه عن ديرته.
إنه تعيس بسبب قوة خارجية امتصت رحيق حياته، وجعلته يرزح في قاع المجتمع، وهذه القوة تتمتع بعذاباته وتتمادى في أذاها بعد أن أفرغت حياته من معنى وجودها، وجعلته غارقًا في التعاسة التي فرضت عليه ومع هذا يسمى سعيدًا.
التناص في ثيمة العمل/
ضمت مدوّنة (عنبر سعيد) ثيمةً مركزية تمثلت باستغلال المشعوذين لضحاياهم، وما يتبعه من تمادي في هذا السلوك الذي يتنامى بين بسطاء الناس، فينساق الكثير من المحرومين إلى هذه الرموز التي تدعي الورع، لكنها تتخذ من المبادئ والقيم الإنسانية قناعًا ينخدع به الكثير ممن يتشبثون بقشة الحياة، باحثين عن ضالتهم لدى الأدعياء بوعودهم التي لا يعلم أحد بمصداقيتها.
وقد اشتغلت الكثير من المدوّنات في السردية العراقية على هذه الثيمة التي شغلت مساحات متفاوتة ضمن متونها، وفي (عنبر سعيد) ذكرت (المرأة) حين تبركن الصراع في داخلها وعانت من فصام، وتنازعت مع ذاتها بعد أن لوّثها (الشيخ)/
[كان الشيخ جالساً على دكة وسط الحوش، وقفت قبالته. المرأة التي في داخلي بدأت تظهر أمامي عارية. يضمخ جسدها السخام. سخام بلون أيامي الماضيات] ر.ص50.
وهذه العبارة تحيلنا إلى عمل سردي آخر، فقد وصفت إحدى الضحايا الشيخ في رواية عنوانها (شجرة السخام) للكاتب هادي علي مثنى/
[سأخبرك عن شجرة سخام أعطت ثمارها في بيتنا] ص 80.
وأن (جلال) في الثانية يطابق (الشيخ) في عنبر سعيد، ويعادل شجرة سخام لما تركه من ملوثات عليها، فهو لم يمثل جانب الخير المعلن في ظاهره؛ إنما كان يرتدي النقاء ادعاءً، ويقبع في داخله شخص ملوّث بكل المساوئ، يتلبّس الفضيلة لكنه عمليًا منفتح على كل الموبقات، إذ لا يتوانى من اتباع أهوائه وارتكاب البشاعات، مستغلاً انصياع الناس له بعد استلاب إراداتهم بأساليب الدجل. يمتص أرواحهم ليغدو مصدرًا للقبح يلوّث كل من يقترب منه ويعاشره، قد يبدو كشجرة في مظهره لكنه هيكل من سخام، يترك هباءه غير المرئي أذىً بأفعاله على كل من يستظل به، لقد كان دور (الشيخ) في عنبر سعيد مطابقًا لدور (جلال) في شجرة السخام وكلاهما أداة قبح خانقة لمظاهر الجمال.
ملحوظات في التقنية والتلقي/
- اقترب فضاء السرد من الفضاء الروائي، فهو ليس واسعًا ولا يشتمل على أحداث كثيرة وفواعل جمعية متداخلة.
- كان زمن السرد دائريًا، إذ ابتدأ مع احتضار عنبر سعيد وموته، ليعود الراوي ليخبرنا عن تفاصيل حدثت في زمن ارتجاعي، وانتهي باختفائه والبحث عنه.
- ترك الكاتب لشخصياته حرية الحركة، وأطلق ألسنتها لتعبر عن زاوية نظرها من دون تدخل خارجي أو وصاية عليها، وهذا التوجّه أضفى دفقًا إمتاعيًا على مجمل العمل، وقد أكدت هذا المسار حيادية السارد وهو يدير المتون.
- انقطاع الروي أو التغيّر في سياق السرد، فقد كان الراوي العليم خارجيًا يتحدث عن ضمير الغائب (هو) ليتحول فجأة بضمير الـ (أنا)، بعد أن تدخلت المرأة (خليلة الشيخ)، وانطلق لسانها بصورة مفاجئة من الصفحة (27) حتى الصفحة (55)، ليعود الراوي الخارجي حتى توقف متوالية الملفوظات.
………………..
المقال منشور في ثقافية صحيفة (البينة الجديدة)
عنبر سعيد، رواية، عبد الكريم العامري، دار الفنون والآداب، دمشق- دبي، 2019م.