قد يختلف اصدار الشاعرة وفاء عبد الرزاق (وقوست ظهر البحر) الصادر عن دار الكندي بالمملكة الاردنية الهاشمية في عام 2000 عن بقية اصداراتها في الشعر الشعبي العراقي مثل (تبللت كلي بضواك وآنه وشوية مطر ومزامير الجنوب وبالكلب غصة ومركب تايه وعبد الله نبتة لم تقرأ في حقل الله) وذلك لأن الاصدار لم يتضمن سوى عنوان واحد (كطرة) جُزّء الى 60 رقماً تسلسلياً فيما تضمنت الاصدارات السابقة عناوين مختلفة للقصائد.
في هذه المجموعة تختزل الشاعرة حياة مليئة بالانتظار والحنين وحقائب سفر مشحونة بالشوق لامس لم يعد ابداً..
نبدأ اولاً بالاهداء وهو العتبة الاولى التي تلي عنوان المجموعة الشعرية كما يسميه جيرار جينيت في دراساته (عتبات النص) كون الاهداء (لا يدخل مباشرة في النص، ولكنه يؤطره من الخارج، ويؤثر في المتلقى بصورة أساسية، مما يسهم في توجيه منظوره وفقاً للتقاليد الممارسة في تلقي الكتاب الأدبي) حيث في تسع مفردات تبدأ وفاء الشاعرة، ابنة النخيل والشط اهداءها، تبدأه بخوف يراودها في كل حركة من حركات الاحرف:
(آنه
وحدي
خيال
مشحون ابسفر
والخبز
باك وجهج واستدار )
الوحدة هنا هو اغتراب آخر تريد ان توصله للقارئ، ليس وحدتها فحسب أنما وحدة كل الذين غيبتهم الازمنة وضاعوا في متاهات أمكنة بعيدة، وهي لا تكتفي بوصفها وحيدة أنما اضافت الى ذلك حركة مستمرة (مرئية وتخييلية) خيال وسفر، فالخيال هو سفر آخر يدور في الذاكرة، والسفر هو انتقال من مكان لمكان لكنه ليس بالسفر الترفيهي انما سفر الوحدة والخوف يؤكده الشطر الثاني من الاهداء: (والخبز باك وجهج واستدار).. والخبز هنا هو الموطن ذلك لأن العراقي حين يتذكر في غربته شيئاً من موطنه ينبري الى ذاكرته (الخبز) وخبز التنور على وجه التحديد.. الشاعرة هنا تصعّد دراما الاهداء باختيارها الفعل (باك) والذي يشير الى المحنة التي تريد ان توصلها للقارئ فالذي سرق هنا هو (الوجه) ويعني الملامح ما يوحي ان الوحدة التي تعانيها غدت بلا ملامح.. ويعطي فعل الاستدارة اشارة واضحة الى ان ما راح لن يعود.
قٌسِّم الاهداء الى شطرين، الاول يتوجه بضمير الآنا (المخاطِب) – آنه وحدي .. والثاني يتوجه بضمير (المخاطَب) بك وجهج.. وكأنها هنا تقف ما بين شخصيتين ولا اعني هنا الازدواج انما شخصية انبثقت عنها آخرى
يكاد الاهداء ان يختزل كل ما في المجموعة من صور رسمت بدقة، فما بين السفر والحنين والشوق والاحلام والطفولة يدور احساس الشاعرة/الانسان، في قطرتها الرابعة تقول:
(امنين اجيب الضوا شبكة
واعتني
لحضنج مدار..
ارتبك آنه وحنيني
والخطاوي
تردني بنصيص النهار
لا توزعيني احتراق
لا تدوري
خاف شعرج من كحل عينج يغار).
وفي القطرة الخامسة وبطريقة حوارية تحاول ان تبرر سفرها قائلة:
(راحت…؟
لا ما رحت
رخى جفني او وحدي دفّاني البرد.
راحت…؟
لا ما رحت
لكن فراش الوكت صاير نعش..)
وفي القطرة الخامسة والثلاثين تحاول الشاعرة ان تمد جسراً نحو الامس الا ان كل محاولاتها تضيع في خضم التساؤلات:
(اشلون امدلج جسر مني واوصلج
واشلون ألملم ملح دمي او احضنج..؟)
الا انها ما زالت تأمل فيمن يأتي لها بماضٍ جميل يعيد لها امكنة غابت وضاعت ملامحها:
(من شبابيج النوارس جاني صوتج
لهفة لهفة
شدها بسنون البحر)
في مفارقة قد تبدو غريبة تقول الشاعرة في القطرة السادسة والاربعين:
(اشكد تمنيت اعوفج
حتى احبج من جديد)
الا ان الرحيل لم يخلف سوى الالم وها هي تعود من جديد لتقول:
(سامحيني آنه مرجحني احتياجي
ابقفص وبضد الفضا
وآنه كطرة واكفه ابباب المحيط
رددت لج: سامحيني)
في مجموعة الشاعرة وفاء عبد الرزاق (وقوست ظهر البحر) محاولة جادة للغور في اعماق النفس البشرية وهذا ما يضعها في لائحة الادب الشعبي الانساني وختاماً يجد المتتبع للنتاج الادبي للشاعرة والقاصة وفاء عبد الرزاق دفقاً من المشاعر الانسانية حتمتها سنوات غربة امتدت طويلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
د. عمر عيلان: مستويات السرد عند جيرار جينيت