علي الزبيدي
عندما كتب علي بن الجهم قصيدته الرائعة عن بغداد وجمالها وحسن هوائها لانه وجد فيها ما لم يجده في غيرها من حواضر الدنيا من ماء وخضرة واعتدال في مناخها وجمال حسناواتها فقال قصيدته التي ما زلنا نردد بيتها الشهير بعد أكثر من الف وثلاثمائة عام من الان وبغداد في عيوننا انظف وأجمل أرق بكثير مما قاله فيها ابن الجهم وغيره من الشعراء قديمهم وحديثهم لأنها هي أم العراق التي تغتسل كل صباح بدجلتها وتنشر جدائلها على ضفتيه صباح مساء .ولهذه الاسباب كانت بغداد جميلة الجميلات تتغنج وتتعطر بعطر الرازقي والجوري والشبوي
وبغداد بالنسبة لنا نحن العراقيين الرئة التي نتنفس بها معاني السمو والعزة والقوة والجمال فهي حاضرة الدنيا وملهمة الشعراء على مر العصور.
وبغداد اليوم غير بغداد الأمس فقد غادرتها البلابل والحمائم فلا عدنا نسمع تغريدها وهديلها وهجرتها رائحة الطين والماء وما عادت عصاري دجلة كتلك التي كانت تجمع الناس على الالفة والمحبة والجمال ولم نعد نسمع فيها تلك الأغاني التي كانت تطرز حياة الناس بالرقي وحب الحياة فلم نعد نسمع على شواطي دجلة مر ولا غيرها من تلك الروائع التراثية التي تعبر عن جمال بغداد وتمدن اهلها واحساسهم المرهف فكل شيء تغير وتبدل في بغداد فأهلها غابوا او تغيبوا او غيبوا فالنتيحة واحدة واهملت بغداد في كل شيء فكانت الفوضى بديلا عن التنظيم حتى شوارعها التي كانت تعج بالخضرة والنظافة والجمال اصبحت غريبة عن أهلها .
بغداد اليوم أسوء مدينة في قائمة عواصم العالم فقد لفها الإهمال وأخذ منها الخراب وتفاقمت اوجاعها وأوجاع أهلها وحلت فيها خفافيش الظلام منذ دخلها الغزاة والمحتلون وتحولت شوارعها إلى فوضى في كل شيء وطبيعي أن تنتج الفوضى فوضى أخرى في حياة الناس وفي طبيعة تعاملهم اليومي فحل السلاح المنفلت مكان المحبة وجرت انهار الدم فيها كما جرت في كل مدن العراق فانطفئت ابتسامتها وخفتت ضحكات اهلها وما عاد الفرح عنوانا لها ولا لأهلها لقد ارعبوا نهارها وليلها في محاولة إدخال الرعب والخوف في نفوس أطفالها وشيبها وشبابها
لكنها بغداد لمن لا يعرف تاريخها ستغني بغداد رغم الالم وحزن وفراق احبتها فهي عنوان حياة وعنفوان وجود فقد مرت عليها سنوات كالحات وكبت لكنها عادت مرة أخرى جميلة زاهية تحضن ناسها مثلما يحضها دجلة عن اليمين وعن الشمال وستعود جميلة الجميلات رغم حقد وكره الغرباء
فهكذا عودت بغداد اهلها وهكذا هي ام العراق تكبو لكنها تنهض من جديد ولنا في قول الراحل مصطفى جمال الدين ما يعزز قولنا في كل حين فهو القائل:
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر
إلا ذوت ووريق عمرك اخضر
فلابد من صبح قريب لبغداد تنفض فيه عن نفسها غبار السنين العجاف ويطرد النور الظلام.
المقال منشور في جريدة الدستور البغدادية