عبدالسادة البصري / العراق
ذات يوم ذهبتُ بمعيّة الدكتور شوكت الاسدي والكاتب باسم محمد حسين لزيارة الصديق الشاعر علي العضب، الذي أقعده المرض وصار طريح الفراش ، يعاني من آثار جلطة دماغية كادت أن تودي بهِ ،، وفيما نحن جالسين عنده ، وهو يومئ بيده ويتحدث بصعوبة معنا ، سرحتُ بين كلمات أوبريتاته التي كانت التجربة الأولى في ميدان المسرح الغنائي في العراق أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي (بيادر خير ، المطرقة ، المعيبر شنان ، أنت أمس أنت باجر ..الخ ) ، وكيف أخذ صداها يرنّ في زوايا مسارح البصرة وبغداد. وعبرت أغنياته التي انشدها (فؤاد سالم ، ستار جبار وغيرهما) كلّ الآفاق ، فدقّ جرس (بصرتنه ما عذبت محب ، احنه العشك عذّبنه) في سماء خيالي ، حيث أن هذه الجملة غدت مثلاً يردده كلّ مَنْ يذكر البصرة ويتغنى بمحاسنها ، وكأنها طُبِعَت في مخيلة الجميع إشارة وفاء للبصرة العاشقة المعشوقة !
وأنا سارح بين كلمات الاوبريتات والأغاني التي جادت بها قريحة العضب ، فزّزني صوت صديقي باسم وهو يقول لي: ما جنّك هذاك انتَ ! قلت له : يا الله .. كم كنت في رحلة رائعة بين عذوبة وأنغام الكلمات التي سطّرتها أنامل شاعرنا الفذ ؟!
علي العضب حاله الآن حال العديد من المبدعين العراقيين الذين أصابهم الإهمال والنسيان من قبل أصحاب القرار في وطننا المبتلى بضياع رموزه ومبدعيه بين طيّات الإهمال المتعمّد طبعا ،، وكأن السادة المسؤولين لم يقرأوا التاريخ أبدا ، ولم يبصروا ما تبديه الشعوب والحكومات في كل بقاع الأرض من اهتمام ودعم وحفاوة برموزهم ومبدعيهم. فمثلاً تجد إشارة كبيرة في أحد شوارع باريس تقول: من هنا مرّ بودلير! ويقال انه إذا توقف المرور فجأة في احد شوارع بوينس ايريس ( عاصمة الارجنتين) فمعنى ذلك أن بورخيس سيعبر الآن! كما تجد الساحات والشوارع والمتنزهات مليئة بتماثيل وصور وسِيَر حياة مبدعي هذه الشعوب ،، لأن التاريخ يصنعه المبدعون من الثوّار والأدباء والشعراء والفنانون! لهذا علينا واجب وطني ضمن ما نقوم به من أجل هذا الوطن ، هو الاهتمام بأبنائه المبدعين الذين طرّزوا سماءه بنجوم زاهرة على مر الزمان ! لا أن نتركهم نهباً للمرض ينهش بأجسادهم ، وللعوز والبحث عن مأوى لهم ولعوائلهم، فهم صانعو الحياة وجمالياتها بكل ما سطّرته يراعاتهم الذهبية طبعاً !
وعلينا ان لنعرف أن الكلَ يمضي من رأس الهرم إلى آخر شخص في القاعدة وتبقى آثار المبدعين في شتى المجالات شاخصة تمنح القاصي والداني تأشيرة دخول الى التاريخ وحكاياته الطويلة . مبدعونا ثروة وطنية أكثر غنى من كل الثروات، وعلينا واجب الاهتمام بهم والانتباه إليهم ، لأنهم صورة الوطن النابضة بالجمال والحياة أبد الدهر!