عبدالسادة البصري/ العراق
هناك في أقصى جنوب الوجع العراقي ، عندما كنّا صغارا أيام الستينات والسبعينات من القرن المنصرم ، كان يطلّ على النهر المقابل لبيتنا الطينيّ من الضفة الأخرى قصرٌ منيف بأواوينه وغرفه وطابقيه ، وبابه الخشبي الكبير ذي الأقواس وشبابيكه الجميلة، وأمامه (المسنّاة) الشريعة بدرجاتها السمنتية على النهر ،تسكنه عائلة كبيرة من أقاربنا ، يسمى قصر الشيوخ ، يقال انه كان لأحد أمراء الكويت في بدايات القرن، وقد كان يسمى الحوز الذي يقع فيه بحوز القصرــ الحوز هو المنطقة المحصورة بين نهرين ــ كان هذا القصر معلما جميلا ننبهر حين ندخله ونتجول فيه، بعد مرور الأيام وازدياد عدد أفراد العائلة تفرقت إلى عوائل فتقاسمت القصر لتأخذ كل عائلة حصتها وتبنيها على هواها ، ضاعت ملامح القصر شيئا فشيئا ،ثم تهدّم بشكل كامل اثر الحرب العراقية الإيرانية !
استذكرته قبل يومين وأنا أتحدث لأصدقائي عن بيت تراثي جميل في مدينة السماوة زرناه خلال مشاركتنا في أيام أوروك الثقافية قبل أيام ، استطاع صاحبه وهو ابن العائلة التي كانت تسكنه في سنوات خلت أن يشتريه من أخوته الورثة ليحافظ عليه كتراث رائع لهذه المدينة ، وذاكرة ستبقى لسنوات طويلة مقبلة تحكي قصة عشق لعائلة سماوية كانت تتقاسم غرفه وأواوينه وسردابه وكلله (جمع كلّة ــ ناموسية) ودرجاته وطوابقه وطريقة تهويته ، بعد أن اعاد ترميمه على وفق طرازه القديم. لقد آثر هذا الرجل المحب لبيته ومربع طفولته وصباه أن يتركه عنوانا ومحجّة للناس في قابل الأيام بلا مقابل.
حكاية هذا الرجل وإنفاقه من جيبه الخاص على ترميم بيت عمره أكثر من مائة سنة هو موقف يكتب بماء الذهب في الحفاظ على تراثنا وديمومة بقائه للأجيال القادمة.
في البصرة بيوت تراثية كثيرة أصابها الإهمال وتجاوزت عليها الأيدي لتتحول إلى بيوت تجاوز، ثم تتهدم أركانها وأبنيتها يوما بعد آخر لتندثر، وتتحول إلى بيوت حديثة لم يعد للذاكرة منها أي شيء.
لم يبق من هذه البيوت سوى القليل جدا والتي استطاع الأدباء والفنانون والمثقفون أن يحافظوا عليها بإشغالها من قبلهم، حيث بناية اتحاد الأدباء وقصر الثقافة والفنون وجمعية التشكيليين ومتحف التراث فقط، أما البقية التي كانت تعبق فيها رائحة التراث وحكايات العوائل البصرية القديمة التي مر عليها قرن وأكثر فقد صارت في مهب الريح وتلاشت عنها الصورة التي نراها في بطاقات البريد القديمة والمعايدات وصور البصرة أيام زمان.
علينا أن نفكر بشكل جدي في الحفاظ على هذا الجزء المتبقي من تلك البيوت لأنها جزء من موروث المدينة وتأريخها، وان نعمل جاهدين على ديمومتها فهي مزارات سياحية بالإمكان الاستفادة منها سياحيا وثقافيا وفنيا واقتصاديا، لا أن تضيع وتصبح مثل ذلك القصر الذي سكن ذاكرتنا فقط .