من بين المنافي التي استقبلت فارين عراقيين من بطش النظام والحصار والاحتلال، حلَّ باسم فرات في نيوزيلندا، ومنها إلى اليابان التي أخذته إلى لاوس وكمبوديا وفيتنام. هكذا، تحولت الإقامات الطويلة إلى نوعٍ من الإقامة الشعرية التي تسمح لمفردات ومشهديات الأمكنة الجديدة بأن تُضاف إلى معجم ومشهديات المكان الأول. ما قد يبدو سياحياً في حالاتٍ كهذه، يتداخل مع مكونات السيرة الشخصية، ويصير جزءاً من التوثيق الشعري لها. هذا ما نحسّه في مجموعة «بلوغ النهر»، الخامسة له بعد «أشدُّ الهديل»، و«خريف المآذن»، و«أنا ثانيةً»،
و«إلى لغة الضوء». المزاج السردي الذي طبع نبرة البدايات يتواصل هنا بمكونات المنفى: في قصيدة «الساموراي»، نقرأ: «يعتمر قبعته/ يمتشق سيفه الذي يكاد ينافسه على قوامه/ يتمنطق بالفولاذ/ إنه بكامل أبّهته/ فيه رائحة التاريخ وبقايا غباره/ ولأنه لم يجد فرساناً يقاتلهم/ خصصوا له ركناً/ في المتحف والمهرجانات». يدسُّ الشاعر العراقي ماضيه في حاضره مع «عجائز أحدثهم عن حروب آبائي/ فيصبّون الشاي مثنىً وثلاث». يتردد إلى سوق «هندوري» الشهير في هيروشيما الذي «من عادتي أن ألوذ به نهاراً/ بينما ندى القباب ما زال عالقاً على جبيني»، بينما «يُخبر أصحابه عن «وطنه الجديد»/ عن المدن التي استقبلته/ عن شلالاتٍ بعدد أيام خدمته العسكرية/ ../ ويجهشُ بالبكاء/ حين تقبضُ عليه وحدته متلبّساً بالحنين». تنبعث من قصائد المجموعة ثقافة أوقيانية وشرق أقصوية محبَّبة وشبه مجهولة، حيث تنتهي القصائد بهوامش تشرح للقارئ دلالات أمكنة وديانات وتواريخ وإثنيات. يمتدح الشاعر «باشو» سيد قصيدة الهايكو اليابانية، وتحضر احتفالات «الهَنَمي» بأزهار الكرز. يستدرج جنوداً على ضفة نهر «ميكون» إلى حانة في لاوس، ويرى «رهبان بوذا ينتشرون/ صلواتهم تهشُّ عزلتي»، بينما «المطر يهذي طوال العام» فوق ولنغتون النيوزيلندية بشوارعها «النحيفة كخصور النسوة»، وعلى ساقيها «تنبتُ البحارُ مثمرةً بالأمواج». القصائد الخافتة والميّالة إلى السرد تحدث في الذاكرة والواقع. تختلط بنثر الحياة في الأمكنة الجديدة التي سيطول المكوث فيها، وستسمح للشاعر بأن يمزج سيرته بسيرتها، ويصدّق أنه لم يعد غريباً. يختلط بالناس، وينصتُ «للقلوب وهي تتغامز/ انظروا للغريب الذي صار واحداً منا».