كشف مايكل غوردن المحلل السياسي في صحيفة نيويورك تايمز عن ان الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الايراني، لا يزال يؤرق الولايات المتحدة، كونه العقل المدبر الإيراني للفوضى في العراق.غوردن واعتماداً على ما استقاه من معلومات في اثناء تأليف كتابه “نهاية اللعبة: القصة السرية للنضال من أجل العراق من جورج بوش وحتى إدارة أوباما” الذي ألفه بالتعاون معالجنرال المتقاعد برنارد براينتور، روى الكثير من الخفايا عن دور سليماني في العراق والمنطقة، مما لم يكشف سابقاً. عندما سافر مسؤول استخباراتي عراقي بارز إلى طهران في صيف عام 2007 للقاء القيادة الإيرانية، سرعان ما اكتشف من هو المسؤول عن سياسة إيران تجاه جارتها في الغرب. ولم يكن المسؤول هذا هو الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، بل كان قائد ميليشيا فيلق القدس شبه العسكرية الغامض، قاسم سليماني، الذي شرح بهدوء أنه “السلطة الوحيدة للتحركات الإيرانية في العراق”، بحسب رواية مسؤول عراقي نقلها إلى المسؤولين الأميركيين في وقت لاحق في بغداد. ويحمل سليماني، الذي يتحدث بصوت خافت، ثقة كبيرة في نفسه، نتيجة الدعم الذي يلقاه من المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، وهو يعتبر على طرف نقيض من الرئيس الإيراني الطنان. وقد رقي سليماني إلى رتبة ميجور جنرال (لواء)، وهي أعلى رتبة في قيادة الحرس الثوري، العام الماضي، كما كان العقل المدبر لمبادرتين أساسيتين في السياسة الخارجية الإيرانية: بسط وتوسيع النفوذ الإيراني في السياسات الداخلية للعراق وتوفير الدعم العسكري لحكم الرئيس بشار الأسد في سوريا. وهذا الدور وضعه في مواجهة مباشرة مع صانعي السياسة في الولايات المتحدة لضمان مستقبل العراق كحليف للولايات المتحدة، وإسقاط نظام الأسد، ووقف المحاولات الإيرانية لبسط نفوذها المتزايد في المنطقة. وقد وضعت وزارة الخزانة الأميركية سليماني العام الماضي ضمن قائمة العقوبات، لأن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أنه كان متورطا في خطة لاغتيال السفير السعودي في واشنطن. ويرى المسؤولون الأميركيون الذين كان عليهم التعامل مع “حرب الظل” التي شنتها إيران خلال السنوات التسع التي كانت فيها القوات الأميركية موجودة في العراق، أن ذلك الدور لم يكن مثار دهشة، حيث تقدم مراسلاتهم مع الجنرال سليماني ومناقشاتهم الداخلية التي رويت في وثائق سرية مفصلة تم الحصول عليها من أجل كتاب جديد حول العراق صورة حية لمنفذ نشط ومثابر للأهداف الدولية الإيرانية. ووصف الجنرال ديفيد بترايوس (رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية/ سي آي إيه)، الذي واجه نفوذ قائد فيلق القدس خلال عمله بالعراق، الجنرال سليماني بأنه “شخص شرير بحق” في رسالة إلى روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي آنذاك. وفي رسالة أخرى اعترف بنفوذ سليماني في العراق. فكتب بترايوس في رسالة مؤرخة في أبريل 2008 إلى غيتس “ما أثار الدهشة إلى حد بعيد هذا الأسبوع كان مدى التدخل الإيراني المباشر في الشأن السياسي العراقي”.
وكانت لبترايوس، وبشكل أكبر من المسؤولين الأميركيين الآخرين في العراق، عبر وسطاء، قنواته الخلفية مع سليماني. وبات على يقين من أن إرسال رسالة إليه سيكون أمرا مفيدا، لكن لقاء الجنرال الإيراني ولو حتى سرا كان سيرفع مكانة الإيراني ويعزز شعوره بأنه هو من يحمل الكلمة الفصل في مستقبل العراق. انتبه العراقيون للمرة الأولى للجنرال سليماني خلال حرب إيران الدامية مع العراق والتي استمرت ثماني سنوات، وكقائد للفرقة 41 من الحرس الثوري، حين نال شهرة في قيادة مهمات الاستطلاع خلف الخطوط العراقية، إلى درجة أن الجيش العراقي كان يخصه بالذكر في النشرات الإذاعية، بحسب علي الفونة، الزميل البارز في معهد “إنتربرايز” الأميركي والذي يدرس الجنرال سليماني.
وقد شكلت الحرب موقفه تجاه العراق، بحسب ريان كروكر، السفير الأميركي السابق في بغداد، الذي قال إن “الحرب الإيرانية – العراقية بالنسبة للجنرال قاسم سليماني لم تنته. لا يمكن لشخص أن يشهد صراعا أشبه بالحرب العالمية الأولى ولا يتأثر على الإطلاق. وهدفه الاستراتيجي كان انتصارا صريحا في العراق، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فخلق عراق ضعيف والتأثير عليه”.
واختير الجنرال سليماني في أواخر التسعينات من القرن الماضي لقيادة فيلق القدس، وحدة العمليات الخاصة للحرس الثوري، الذي شكل لدعم الحركات الثورية في الخارج، بما في ذلك أفغانستان والعراق ولبنان. وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، تولى الجنرال سليماني مهمة توسيع النفوذ الإيراني في البلاد، وتحجيم دور الجيش الأميركي، وفي النهاية تشجيع خروجه من العراق: الهدف الأبرز بالنسبة للحكومة الإيرانية التي كانت عازمة على أن تكون القوة الرئيسية في المنطقة والتي شعرت بالتهديد عبر توسيع الوجود الأميركي على حدودها الشرقية والغربية. وقال محسن صادقارا، وهو عضو مؤسس في قوة الحرس الثوري ويعيش الآن في المنفى في الولايات المتحدة “كان تقييم قوة القدس كالتالي: لدينا فرصة ذهبية.. الآن يمكننا الإبقاء على الأميركيين مشغولين في هذه البلاد، وبصورة ما يمكننا إحداث فوضى في هذه البلاد”. عندما قصفت المنطقة الخضراء في بغداد بالصواريخ في عام 2008 سأل عادل عبد المهدي، نائب الرئيس العراقي، الجنرال سليماني في لقاء في طهران عما إذا كان يقف وراء هجمات الميليشيا. فضحك الجنرال سليماني قائلا “إذا كان التصويب دقيقا، فأنا من فعل ذلك”، وهو ما رواه عبد المهدي لكروكر في ما بعد، بحسب برقية للسفارة الأميركية.
وعلى الرغم من قيام فيلق القدس في ظل قيادة الجنرال سليماني بتسليح وتدريب الشيعة في العراق، فإنه اجتمع ببعض أبرز الساسة العراقيين. ويقول المسؤولون الأميركيون إنه تمكن عبر إذكاء العنف ومن ثم التوسط في النزاع، من أن يشكل جزءا لا غنى عنه في الحل، وأفقد العراقيين توازنهم. وكتب كروكر في برقية في حزيران عام 2008 “لعب سليماني دورا في التوسط لوقف إطلاق النار الذي مكن الميليشيات الشيعية في حي مدينة الصدر في بغداد، المدعومة من إيران، من الانسحاب. وعندما يقع مثل هذا العنف، يبدو متوقعا أن تتوجه هذه الأحزاب إلى طهران وتطلب من قاسم سليماني وقف الفوضى التي كان طرفا أساسيا في اندلاعها واستمرارها”.
إحدى الرسائل الأولى التي تلقاها المسؤولون الأميركيون من سليماني كانت في كانون الثاني 2007. وألقت قوات الكوماندوز الأميركية القبض على خمسة ضباط من فيلق القدس متوسطي الرتبة في أربيل، بإقليم كردستان. في الأسبوع التالي، التقى الجنرال سليماني مع جلال طالباني، الرئيس العراقي، في سوريا، وأعطاه رسالة لزلماي خليل زاده، السفير الأميركي في بغداد، مفادها أن إيران مستعدة لفتح حوار مع الولايات المتحدة شريطة أن يكون سليماني الوسيط.
وأورد طالباني أن قائد فيلق القدس اعترف بأن لديه مئات من العملاء في العراق، شارك بعضهم في الهجوم على القوات البريطانية، لكنه أصر على أنهم لم يتورطوا في شن هجمات ضد الأميركيين، وهو زعم يعتقد مسؤولون أميركيون أنه كاذب. وقد وافق الرئيس الأميركي حينها جورج بوش على لقاء الممثلين الإيرانيين في العراق، لكن ليس سليماني، وعندما أجرت الولايات المتحدة محادثات ثلاثية الأطراف مع الدبلوماسيين الإيرانيين والعراقيين في صيف 2007 في بغداد، وأورد كروكر وبترايوس أن الممثلين الإيرانيين لا يملكون سلطة حقيقية.
وفي أعقاب الاجتماع، تقدم الجنرال سليماني إلى القائد الأميركي باقتراح. وفي لقاء في فندق طهران مع شيروان الوائلي، رئيس جهاز الاستخبارات العراقي، طلب سليماني المسؤول العراقي إخبار بترايوس بأن الهجمات التي تشنها الميليشيات الشيعية في العراق ستنخفض إذا ما أفرج الأميركيون عن قيس الخزعلي، الذي اعتقلته القوات الخاصة الأميركية في آذار. وقال الجنرال سليماني، بحسب الوائلي “ستشهد النتائج خلال شهرين”.
بالنسبة للجنرال بترايوس، كان العرض مرفوضا. فقد تورط الخزعلي، قائد الميليشيا الشيعية، في هجوم أدى إلى مقتل خمسة جنود أميركيين في كربلاء. وطالب الجنرال بترايوس بوقف تدريب فيلق القدس بتدريب وتسليح المقاتلين الشيعة في العراق.
وكتب الجنرال بترايوس في رسالة إلى غيتس، مكررا رده على الوائلي لنقله إلى الجنرال سليماني “لتحريك الأمور قليلا، قلت إنني أفكر في إخبار الرئيس أنني أعتقد أن إيران، في الحقيقة، تشن حربا على الولايات المتحدة في العراق. لأنني على الرغم من ذلك أعتقد أن إيران تخطت مجرد محاولة بسط النفوذ في العراق ويحتمل أنها تنشئ وكلاء لقتالنا بضراوة، على اعتقاد أن ذلك قد يبقينا مشغولين خلال محاولتهم صنع أسلحة دمار شامل وإنشاء جيش المهدي ليكون نظيرا لحزب الله في العراق”. لكن حرب الظل استمرت، فبعدما بدأت إيران في تزويد أفراد الميليشيات بقذائف الهاون، بعث الجنرال بترايوس برسالة له، فيما التقى قائد عملياته مايكل دي باربيرو بهادي العماري، السياسي الشيعي والقائد السابق لمنظمة بدر التي أنشئت في السابق لقتال صدام حسين بدعم من قوة القدس. وقال باربيرو “إذا لم يوقف أصدقاء العماري في الشرق هجماتهم فسوف يصعد الأميركيون من غاراتهم ضد عملاء فيلق القدس المشتبه بهم وعملائه في العراق: الغارات التي تضمنت قوى العمل 17، وحدة كوماندوز سرية مخصصة لمواجهة النفوذ الإيراني”. نتيجة لذلك توقفت الهجمات لأكثر من عام، بحسب مسؤول عسكري سابق، لكنها استؤنفت في ما بعد وظلت تمثل مشكلة إلى أن رحلت القوات الأميركية عن العراق في عام 2011. وفي رسالة إلى غيتس في أبريل (نيسان) من عام 2008، أشار الجنرال بترايوس إلى أنه رفض مقترح الجنرال سليماني، الذي نقله طالباني وعبد المهدي بلقاء الأميركيين في محادثات سرية. وكتب الجنرال بترايوس “لا تقلق، فلن نوافق على ذلك”.