وديع شامخ*
في الحرب العراقية الإيرانية العراقية ابان ثمانينيات القرن الماضي ، وحين طال أمدها صار العراق يستورد المواد الغذائية من الخارج بما فيها اللحم لأمداد الجبهات والجيش عموما بالمواد الغذائية التي تعينه على مواجهة الحرب وضراوتها، ومن بين اللحوم المستوردة ، لحم الكنغر الأسترالي ، الذي يؤتى به الى جبهات القتال مع سيارات توزيع الأرزاق الحيّة ، ملفوفا بإحكام بقماش أبيض يُشبه الكفن!
…….
العسكر العراقي بضباطه وجنوده بصفة عامة ، يتطلعون الى لحم الخروف العراقي الطازج الشهي أو لحم الابقار عندما يأتي طازجاً ومختوما بختم وزراة الصحة ، أحمر لا غش فيه ، يسر الناظرين.
ولكن الكنغر الذي أطلق عليه الجنود ب” المُكفن” نتيجة لتشابه القماش الأبيض مع كفن الموتى ، وحين يكون مصبوغاً بالدم أحيانا.. ليخلق صورة رمزية أقرب الى الوحشية والجزع عند الجنود على خط الموت ، بالإضافة الى جملة من المحرمات الدينية وغيرها لأكل لحوم لا يعرف مصدرها تماما وطريقة ذبحها. زائدا ما يثيرة الطهاة في الجيش من لغط يخلط الواقع بالخيال عن زفرة اللحم وصلابته وطعمه غير المألوف للذائقة العراقية البطرانة!
ولعل خلو الكنغر من الألِية الشحمية في مؤخرته وكونه اقطعاً وأبتراً ولا يوازي طعم ومذاق الخروف العراقي ،قد زاد من سوء سمعة هذا الحيوان المسكين المجلوب من آخر أصقاع الدنيا ” قارة أستراليا ” الى أسخن نقطة في جبهات القتال في العراق .
……….
هكذا شكّل الكنغر صورة نمطية سيئة قبل وبعد تذوقه قسراً ، أذ لا بديل للجندي العراقي على خطوط الموت سوى هذا الترف الجديد في الكنغر المكفن ، المناظر لمصير الجندي في أيّة لحظة من الزمن .
وكمال زادت سخونة المواجهة من الجانب الإيراني وتقارب خطوط التماس ضاع هذا البطر العراقي ، وصار الجندي يحلم بلحم الكنغر لعدم إمكانية وصول المواد الغذائية الطازجة الى خطوط التماس الساخنة ، ويبقى الجنود يأكلون الأرزاق الجافة ، وهي مواد تتكون من معلبات خضار مختلفة واجبان ولحوم مع بسكويت مجفف بدلا عن الخبز .
ففي الخطوط الأمامية صعدت حظوظ الكنغر عندما يأتي بقدور كبيرة مطهيا مع الرز والمرق عندما تهدأ المواجهات ، وسيكون الكنغر ضيفاً عزيزاً على “قصع” الجنود المعدنية المطلية بالطين من الخارج خوفا من كشفها من قبل الجانب الأيراني ، وربما تكون مصبوغة بدم جندي مات قبل لحظات ، ولا وقت لغسيل دمه ، فيكون الكنغر أكثر ألفة ومقبوليةً من دم عزيز لم يجف بعد، ولكن للجوع أحكاما تتحدى الموت والحزن .
………..
بعد أن إنتهت الحرب الصدامية الخمينية ،- وهذا أدق توصيف لها برأيي- بنصر إعلامي زائف مبين لصدام على الخميني الذي وصف قبوله لقرار السلام كمن يتجرع السم .
الحرب الحمقاء التي أكلت الملايين من الجانبين قد ودعت طبولها وحناجرها ، و تناهبتنا المصائر وتقطعت بنا السبل ، نحن الذين بقينا على قيد الحياة .
ومن محرقة ايران الى محرقة الكويت ، صار العراقي مشروع موت دائم ، وحتى إذنت ساعة خروجي من العراق، حتى عادت الذكريات تخترقني لأدونها في رواية بعنوان ” العودة الى البيت ” .
………
الكنغر رمز وطني أسترالي
“Kangaroo”
لكني لم أعد للبيت بل انفلت عقال البعد والنأي حتى كانت قبلتي ” قارة أسترايا”
استراليا بلاد الكنغر ، أيّ قدر جديد مع هذا الحيوان المكفن ؟
ومن تصور ساذج يقوده خيال الحيوان الملفوف بالقماش الأبيض سابقا وما يثيره من لحظات ذاكرة مرّة وشاهدة عن زمن الموت بلا جدوى ، تصورت ان استراليا مرعى كبيرة لهذا الحيوان ، وهو حتما يصول ويجول في الشوارع كما الخراف والماعز عندنا، ويمكن أن يكون حيواناً مبتذلاً .
وحين وصلت أستراليا لم أصادف كنغرا في الشوارع، وانما رأيته مرات معدودات في محميات او حدائق يرفل فيها بعز ونعيم ولأول مرة أراه ينط منفردا حرا فرحا مسالما وحين أتقرب منه ومن حياته ، كم اجده حميميا وعرفت ان هناك 90 نوعا منه ، ومن غرائبه أن يحمل اطفاله في كيس يسمى ” الجراب”،وهو حيوان محترم جدا ويعد اليوم رمزاً أسترالياً وطنياً، يضعون علامات للسائقين في الطرق وفي أماكن تواجد الكناغر كي لا تصدمهم السيارات حين يتقافزون بحرية في وطن يحترمهم جداً.
الفرق واضح بين الكنغر المكفن رمزاً للحرب والموت الذي اخترعناه نحن هناك بقرب الموت وهذيان الرؤى ، وبين الكنغر النطاط الرمز الوطني الأسترالي.
اعلامي عراقي مقيم في استراليا
رئيس تحرير مجلة النجوم