*ضمن البحوث التي شاركت في ( مؤتمر القمة الثقافي الأول) الذي أقامته( دار القصة العراقية) وجامعة ابن رشد في هولندا
يومي 25و26/11/2011 في منتجع جنة عدن السياحي في ميسان قرأ البحث الأديب محمد رشيد بالنيابة لظرفه الصحي.
جاسم المطير / لاهاي -بصرة
القضية الأكثر جدية التي لا تكف عن الجدل منذ نيسان 2003 وتتواصل على مر الزمان هي علاقة الثقافي مع (الآخر) خاصة مع (الآخر السياسي) بعد تفشي ظاهرة تبعيث المثقف أو إلحاقه قسراً أو إغراءً بالسلطة خلال 35 عاما ممتدة 1968 – 2003 حين تجسمت ظاهرة الثقافة والمثقفين على أرض الواقع البوليسي محكومة بسعي أجهزة الدولة الإعلامية والثقافية لضمان جعل الكتاب والشعراء والمبدعين توابع لها، خطوة إحداها من خطوة الأخرى لتأكيد تسيّد آلة الدولة على المبدعين والمثقفين ليكونوا، ليسوا حلفاء مكملين لها، بل ليكونوا منفذين عميان لسياستها .
حين اشتد طغيان السلطة الحاكمة بعد مجيء صدام حسين إلى مركز السلطة الأول عام 1979 ، بعد إشعال الحروب الداخلية و الخارجية المتعددة، حيث وجد المثقفون العراقيون أنفسهم أمام احتمالات مواجهة الملاحقة البوليسية أو السجن أو القتل في بعض الأحيان، فخضعوا مقهورين في وطنهم، لا يسمح لهم بالجدل والنقاش، كما منع عليهم أي شكل من أشكال الخلاف مع الرأي السياسي لقيادة الدولة لأنه يتعارض مع شمولية دولة قمعية شيدها حزب البعث، تهدف بكل خطواتها ،اليومية والإستراتيجية، لتوحيد المجتمع العراقي في كل ٍ أيديولوجي ٍ واحدٍ فوجدوا أنفسهم أمام الحالات القاهرة التالية :
(1) هوى البعض من المثقفين تحت صولجان الدولة أو إغراءاتها فصاروا جزءا من رادارها وصاروخها.
(2) فضّل بعضهم الآخر الانزواء في عالم بارد غير إنساني في البيت منطويا على نفسه وعلى أعماله الإبداعية من دون نشرها.
(3) اضطر بعضهم الثالث إلى الفرار إلى خارج العراق والقبول بالعيش تحت رهبة وضراوة الغربة عن الوطن لامتلاك حريته في التعبير و الإبداع.
(4) استدعى بعض المثقفين في أبحاثهم ، شخصيات من التاريخ القديم أو ابتدعوا (رموزا) معينة في كتاباتهم ليختفوا وراءها في أعمالهم الأدبية والفنية كي لا يكتشف بوليس الحكام المستبدين حقيقة وأصول أفكارهم ومواقفهم المناقضة للايدولوجيا الشمولية.
في الواقع أن جميع الحالات الأربع السالفة هي شكل من أشكال الوقوع تحت نوع من السيكولوجية اللامعقولة، التي سعت لها الدولة البائدة وقيادتها الطاغية بهدف إخضاع الثقافة للسياسة الشمولية وفق نهج الطاغية الفرد الذي عطـّل (العقل الثقافي) وألهب (الخطاب السياسي) بالأجهزة الإعلامية لتمجيد وتأليه الذات الحاكمة المتجسدة في شخصية الدكتاتور صدام حسين. كما ألهب الخطاب الثقافي – السياسي بالشعارات التي تمجد عسكرة الدولة وحزبيتها حيث كل طاغية يقول لنفسه مثلما قال راديوس في مسرحية كاريل تشايبك (الإنسان الآلي) : ((إن القتل والسيطرة ضروريان إذا أردت أن تكون كالإنسان)) أول ضحايا القتل والسيطرة بيد الطاغية المستبد في كل مكان وزمان هم العلماء و المثقفين.
بعد التغيير عام 2003 ظهرت حرية التعبير في الصحف العراقية وفي الفضائيات التلفزيونية كعلامة بارزة في العهد الجديد، الذي نادت به القوى الوطنية، كمدخل جديد لعصر الديمقراطية العراقية التي نتجت كتحصيل حاصل لإرادة الجماهير ورغبتها بعد سقوط النظام الدكتاتوري. صار هذا الوضع شيئا عاديا ومرغوبا في الشارع العراقي وفي منظمات المجتمع المدني على نطاق جميع المحافظات العراقية، كما كان هذا الوضع نفسه رابطا متينا بين فكرة التقدم الاجتماعي – الاقتصادي وبين دور المثقفين العراقيين جميعا، لتنوير وتوفير الجهد البشري بتحقيق آلية هذا التقدم المنشود.
لكن الدور الثقافي لم يكن مرحبا به من قبل الكثير من السياسيين من ذوي الأساليب والآليات الطائفية والعرقية والقومية وما صاحبها من فساد مالي وإداري وتدهور في الأخلاق السياسية ، التي جعلتهم معتمدين على شراء الذمم لينعموا بالسلطة والمناصب والرفاهة والثراء على حساب فقر الجماهير وبؤس الشعب كله . كثير من أفراد وأحزاب هذه الطبقة السياسية الجديدة المسيطرة على السلطة وجدت نفسها أولا بمواجهة الثقافة والمثقفين تخشى أفعالهم الإبداعية وفعالياتهم الإنسانية التقدمية . لم تكتف ِ بحرمانهم من حرياتهم وحقوقهم المشروعة في التعبير الحر وفي التنظيم الحر وفي الدعم المالي الحر، بل جعلت المثقفين والمبدعين ضحايا لواقع جديد النوع مسيطر عليه بالإرهاب و القتل والاختطاف من قبل تنظيمات عسكرية سرية كتنظيم(القاعدة) و(الميليشيات) المتنوعة النزعات والأغراض حتى صار عدد المقتولين من الصحفيين والمثقفين في الشوارع والسراديب هو الأعلى رقما في العالم كله . ذهبت هباء أرواح ما يقارب من 300 صحفي بما فيهم نقيب الصحفيين شهاب التميمي وبما فيهم الصحفية أطوار بهجت وبما فيهم العائد من غربته الأمينة كل من كامل شياع وهادي المهدي، وغيرهم . لقد اقترن القتل والاغتيال بالثقافة من اجل ازدهار المذهب القمعي الطائفي الجديد النوع والغايات لكمّ ِ الأصوات الحرة ولتنمية تيار جديد من (الخوف) بين صفوف الثقافة والمثقفين الذي يؤدي أول ما يؤدي إلى إيقاف عملية الإبداع و تهديد التفكير المبدع وإعادة الثقافة بمجملها إلى حضانة الدولة والى مرحلة السيطرة الحزبية والطائفية .
نتيجة هذا الواقع فأن المثقف العراقي في هذه المرحلة يجد نفسه أمام أزمة خانقة تحيط به من كل جانب فهو محروم إلى حد كبير من الانطلاق الحر في ميدان الإنتاج الذهني في ظل نظام ثقافي قاصر وعاجز عن مساعدة المثقفين العراقيين في البحث عن الحقائق اليومية في واقع الجماهير المحرومة ، عاجز أيضا عن فرض احترام دور المثقفين، عاجز عن الدفاع عن حريتهم واستقلالهم وسلامة حياتهم وحياة عائلاتهم وعن دعم إبداعهم.
يمكنني هنا إيراد مثل من أمثلة الزمان والمكان في مدينتكم ، العمارة، الغنية بعطائها والمعروفة بأسماء مثقفيها اللامعين ، حسب الشيخ جعفر ، جمعة اللامي ، الدكتور فائق السامرائي ، الفنان فاضل خليل ، عبد علوان الطائي ، الدكتور قاسم أحمد العباس ، والعالم عبد الجبار عبد الله ، والدكتور جاسم محمد خلف والدكتور جعفر عباس حميدي والباحث غضبان رومي الناشئ والشاعر أنور الغساني، الشاعرة لميعة عباس عمارة ، والمناضلة من اجل حقوق المرأة زكية خليفة، وغيرهم بالمئات، كما أنجبت مدينة العمارة في الزمان المعاصر العديد من الفنانات التشكيليات (زينب عبد الحسين ،إيناس محمد، شذى سامي، بتول عبد اللطيف، زهراء ماهود، سوزان كاظم، مروة الربيعي). هؤلاء جميعا كانوا حصيلة محافظة ميسان في خلق واتحاد ومزج الثقافة العراقية مع إيقاع الحداثة العالمية في العلوم والآداب والشعر والفنون، غير أن الوضع الجديد بعد عام 2003 لم يسمح ولم يساند بالتتابع الأفقي والعمودي في حركة الثقافة الحرة وحركة الفنون الحرة في ميسان والعراق كله.
لبعض الإيضاح حول هذا الرسم الواقعي اذكر ببعدٍ حقيقي ٍ واحدٍ من صميم تجربة المثقفين في مدينة ميسان نفسها، حين قام مثقفوها بأنفسهم قبل عامين بعقد أول مهرجان سينمائي دولي مطل على الأهوار وعالمها وتاريخها لكن مثقفي هذه المحافظة ما وجدوا في الدولة العراقية من يمدهم بالمال لاستمرار انعقاد المهرجان السينمائي الثاني الذي كان مقررا في عام 2010 حتى غرق القائمون عليه بالمشكلات والضرورات التي دعت إلى انعقاد الملتقى الثقافي العراقي الأول عسى أن يستطيع مثل هذا (الملتقى) معالجة التغطية المنتظمة المتدرجة لسائر جوانب المشكلات المحيطة بالثقافة والفنون العراقية.
لا شك انه في مقابل القصور الشامل للدولة العراقية في دعم الثقافة والمثقفين والفن والفنانين توجد بعض منظمات الدولة وبعض أجهزتها وبعض المسئولين الواعين فيها ممن يملكون نظرة ثقافية حرة تدفعهم إلى مساندة الفعل الثقافي والعقل الثقافي كما جرى بتوافر دور هؤلاء في الملتقى الثقافي الأول، لكن الحقيقة يجب أن تقال بأن هذا الدور يبقى محدودا في الزمان والمكان ويبقى نسبيا في ايجابيته .
تقوم نظرة المثقف في العراق الجديد على أساس صحيح باعتبارها (نظرة تكامل) مع كل الجهود المخلصة الخيرة في المجتمع، لكنها، مع الأسف الشديد ، تواجه بصعوبة تامة من جانب الدولة من نظرتها التي تجد في الثقافة (شيئا مضادا) لمؤسسات الدولة ولسياسة الحكومة . من هذه النظرة ينتج وعي زائف في صفوف قلة من (المثقفين المنافقين) بينما ينتج (وعي حقيقي) لدى الأكثرية من المثقفين . من دون شك أن الوعي الحقيقي يعتمد على آلية معرفية – نقدية في موقفها إزاء المجتمع والدولة معا بكل مظاهرهما. هذه الآلية لا ترضاها في العادة اغلب الحكومات والسلطات غير الديمقراطية مما يؤدي بها إلى معاداة الحرية في التعبير دافعة نحو بقاء (الحرية) هي أساس الصراع بين الدولة والمثقف تحت سماء هذا العداء . لا تريد الدولة أن تدرك حقيقة أن( الحرية الفكرية) يجب أن لا تقمع، يجب أن لا تُحد بالقمع الحكومي . التاريخ كله يقدم شواهد لا تقبل الرفض بأن أقوى الإمبراطوريات سقطت لأنها منعت( الحرية) كما أن اعتى الدكتاتوريين سقطوا في مزبلة التاريخ لأنهم قمعوا (الحرية). لنا في مثال صدام حسين ومعمر القذافي مثالا واضحا في معمعان السيطرة العسكرية البغيضة على سلطة الدولة وعلى رقاب أمة عربية لا تعرف أن تكتب كتابة صحيحة لحرف واحد واحد من حروف أبجديتها حتى الآن حيث يعجز قادة هذه الدول ومثقفوها المنافقون المقربون بما فيهم وزراء ومدراء لا يعرفون أن يضعوا حرف الهمزة في موضعها الصحيح من الكلمة عندما يكتبون في الصحافة ، فهل يتمكن هؤلاء من وضع قواعد العلاقة بين المثقف والمجتمع ، المثقف والدولة ، المثقف والحرية ، المثقف والديمقراطية ، المثقف وحقوق الإنسان ، المثقف وحقوق المرأة ، في إطارها الصحيح ..؟
هذا الواقع المعاش يضع المثقف العراقي أمام موقفين : إما موقف الانتهازية بالتبعية للسلطة القائمة وإما بالتمرد عليها . في الحالين تكون الثقافة العراقية نفسها هي الخاسرة خاصة حين تتوقف الدولة عن دورها في إغفال مؤسسات البنية التحتية الثقافية كما هو حال وزارة الثقافة العراقية بوقف تمويل البنى التحتية الثقافية منذ عام 2003 بل أنها – كمثال – تتجه الآن في هذه الأيام بالذات إلى أدوات أكثر ترويضا لثقافة المسرح العراقي والفن السينمائي حين تفكر ببيع مسرح الرشيد وهو البنية التحتية الوحيدة في العراق كله التي تتصف بصفات مسرحية – سينمائية فنية وموضوعية. بهذا التفكير تبرهن السلطة الثقافية العراقية أنها لا تملك رؤية اجتماعية – حضارية ولا تؤمن بقوة التكنولوجيا كقوة داعمة للحرية الإبداعية .
لا شك أن الفعاليات الثقافية العراقية في مؤتمراتها ومهرجاناتها وخططها التنظيمية وفي إهمالها أعمار أو بناء مؤسساتها التحتية تواجه منذ عام 2003 حتى الآن نقصاً تاريخيا من قبل الدولة والسلطة الحاكمة التي تصر على حرمان مؤسسات الثقافة العراقية من الدعم المالي بحجة عدم وجود الإمكانيات المالية بينما يجري التغامز بالعيون الإعلامية مع دول الخليج العربي من خلال تخصيص 500 مليون دولار لبناء مدينة رياضية في البصرة يمكن لأي متحضر عراقي أن يقر بضرورة وجود مثل هذه المدينة لكن ليس في ظروف آنية ملحة تؤدي إلى هدر أموال الشعب من دون جدوى حقيقية ، كما نلاحظ نفس التغامز مع قادة عرب متسلطين على شعوبهم ودولهم من خلال صرف مئات مفتوحة من ملايين الدولارات لعقد مؤتمر القمة القادم في بغداد بوقت صار فيه القادة العرب يتساقطون واحدا بعد الآخر بركلات من أحذية شعوبهم .
أي الموقفين أفضل بالنسبة للمثقف العراقي: أن يكون المثقف ساكنا في مكانه وبيئته المحدودة أم أن يكون فاعلا مؤثرا في المجتمع ..؟
ربما يكون في الموقف الأول مسلوب الإرادة إذا لم يكن واعيا لأثر الزمان والمكان عليه إذ سيكون عندها مقصيا ومهمشا.
نفس الـ( ربما) تكون واردة في الموقف الثاني إذا ما تم استغلال المثقف في عملية التبعية للسلطة أو لإعلام الدولة إذ تضطرب حينها حريته الكاملة ويكف دوره عن التأثير والتأثر.
كلاهما الفن والأدب يعتمدان على نوع شديد من الحساسية الذاتية في إنتاجهما المبدع المتجدد وفي مستوى علاقتهما بالسلطة.
المشهد الذي نراه اليوم في مدينة العمارة بانعقاد الملتقى الثقافي العراقي الأول هو من دون شك مشهد رائع ، هو شكل من أشكال الإرادة الحرة للمثقفين العراقيين يستحق الثناء كما يستحق الشكر موقف بعض الشخصيات الرسمية التي ساندته ودعمته بالحدود الدنيا من الدعم والمساندة رغم عجز ميزانية الملتقى عن اقتران فعالياته بعدم القدرة على مشاركة المثقفين العراقيين المقيمين في الغربة القسرية خارج الوطن لأن الإعداد المالي للملتقى لا يملك الحد الأدنى المطلوب لإشراكهم في أعمال الملتقى لتحقيق الومضة الثقافية المطلوبة بين مثقفي الداخل والخارج كي تستريح الثقافة العراقية بأصوات ٍ رخيمة ٍ من جميع المثقفين العراقيين وبالنغمات الموزونة لجميع من يملك القدرة على التأثير والتأثر في آمال الثقافة والفنون في ما بعد الحداثة التي وصلها العالم المتحضر في كل مكان بهذا الزمان بينما حضارة وادي الرافدين ما زالت مستلقية في ظلمة الصراع تسيطر عليها الهموم المتزايدة .
أتمنى في الختام لمؤتمر القمة الثقافي الأول في مدينة ميسان أن يجد الفرص الضرورية للعمل الواعي الحر المشترك مع مؤسسات الدولة الثقافية لا ليكون تابعا لها بل ليكون أداة لتحرير شعبنا من سطوة القوة التي تملكها الدولة ، ليكون أداة ليجادلها ويراقب أعمالها بقصد نشر مبادئ الديمقراطية وتفكيك كل المفاهيم التي تتعارض معها وإعادة بناء وتركيب البنية التحتية الثقافية المشتركة لكن الحرة في تبني كل المعارف الحرة لنشرها وتعميمها بين أبناء الشعب العراقي للمساهمة في التنوير الحضاري وفق الرؤية المعاصرة المستهدفة خدمة الإنسان وتوفير كل ما يساعد على جعل إنسان بلاد الرافدين مستريحا من تعب الحياة الماضية، القاسية ، الناتجة عن قيام احتكار طبقات السلطة المسيطرة على الوقائع المادية – الاجتماعية – الثقافية لعقود عديدة من الزمان العراقي، التي كان هدفها استعباد الشعب وتجهيله مما يتطلب من الملتقى أن يضع في نتائج أعماله ما يساعد المخلصين ممن يتبوءون مراكز السلطة الثقافية على التخلص من سطوتها على المشهد الثقافي الذي كان الفيلسوف الايطالي المعروف أنطونيو غرامشي قد حدده بوضوح تام : (المثقف والسلطة ليسا إلا كتلة تاريخية – اجتماعية واحدة تصطرع داخلها الاختلافات الفكرية والظاهرات والذهنيات، وأنه ليس للمثقف بد إلا تكوين سلطته الثقافية، وليس للمؤسسة من غائية تاريخية واجتماعية إلا تكوين مثقفها وثقافتها.)