فيصل عبدالحسن
حين كنت صغيراً واسمع من المعلم، وهو يحدثنا عن الجَنَّة والنَّار، استمع إليه بكل جوارحي. وكان يسهب في وصف جَهَنَّم وأهوالها، أكثر من وصفه للجَنَّة ونَّعيمها. وكنت مهما أسهب معلمي بالوصف، فإنَّ خيالي لا يذهب بعيداً عن حَمَّام أمي الأسبوعي لي، ولأخوتي، صباح كل جمعة. ببخاره الكثيف، وحرارته الخانقة ومشعل ناره المدوّي. وكنت أتخيل جهَنَّمَ وأهوالها مثلما نلاقي من عذابات الاستحمام على يدي أمنا !!
كان حَمَّامُ البيت واسعاً، ولا اعرف لماذا طلوا جدرانه الداخلية بطلاء أسود، فظهر، كما في الصورة القولية، التي نقلها لنا معلمنا عن الجَنَّةِ، التي لها سور فيه باب، ليعزل أهل الجَنَّةِ عن أهل النَّار ” باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب”.
وليس في الحمام من أثاث إلا دّكّة خشبية خشنة، كئيبة المنظر. تُجلسنا عليها الوالدة، ونحن نتوجّس عذابات قادمة على يديها الكريمتين، أثناء تدليك أجسادنا الصغيرة باللوفة ( مصنوعة من ليف خشن ) والصابون، دعكاً لا رحمة فيه، يحول جلودنا إلى اللون الأحمر القاني.
ولا نتوقف خلال الدلك عن الصراخ، ولا تكتفي هي عن الدلك أو تخففه. وحين نتمادى بالصراخ أو نقاوم دلكها، لا ندري بأي كف تصفعنا. فكف من كفيها به اللوفة، والكف الأخرى اناء الماء الساخن، الذي تكون درجة حرارته، أقل من درجة الغليان بقليل ! أما الكفّ التي تصفعنا بها، فهي كفّ ثالثة لها تختفي حالما نستقر فوق تلك الدّكّة سيئة الذكر هادئين.
كان للحَمَّام بهو صغير ننتظر فيه دورنا للاستحمام، ولشد ما يخيفني لحظة إدْخال أمي لأخي الأكبر الحَمَّام قبلي، فاسمع من مكاني صراخه، وتحوله إلى عَويل. فأبكي وارتجف من الخوف، حتى قبل أنْ يأتي دوري. والمصيبة أنَّ ذلك المَنْزع الصغير للملابس تقفله أمنا على المُنتظِر، فلا يستطيع الفرَّار.
ولي أُخْتٌ كبيرة، تذكّرني بمالك خازِن جَهَنَّم، الذي روى لنا عنه المعلم، إنَّ ليس في قلبه رحمة ولا شفقة. فهو ينفذ الأوامر من دون أنْ يرف له جفن. فهي بالرغم من توسلاتنا إليها أنْ تعتقنا، وتساعدنا للإفلات من الاستحمام الأسبوعيّ. كانت مهمتها تقديم المطلوب منا، وتدفعه دفعاً بلا رحمة لأمنا المُنتظَرة، وكفاها لا تكفان عن جلد، من سبقنا بالماء الساخن حدَّ سلَقِ الجلد، ودعكه باللوفة الخشنة، وشتائمها له لا تتوقف. واتذكَّر لحظتها وأختي الكبيرة تحملني عن الأرض بعد أنْ شبكت قدمي ببعضهما، رافضاً المشي إلى الحَمَّام، الآية الكريمة، التي حفظنا إياها المعلم، وبيده خيزرانة. وكان نصيب من لا يرددها خلفه بصوت مفخم المزيد من نَّعيم لسع تلك الخيزران الخير الكثير !!
فكنت أرددها، حتى وأنا نائم ” ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك، قال إنكم ماكثون”. وما أنْ ينتهي الاستحمام حتى تلفّ أمي رأسي بفُوطَة بيضاء كبيرة، وتلفُّ جسدي النحيل بها لئلا أخذ البرد. فأتوقف عن البكاء حينها، واشعر بتطهري من الذنوب، وسانتقل بعد لحظات إلى جَنَّةِ النَّعيم. فهذه العِمَامةُ البيضاء، هي عِمَامةُ المؤمنين الناجين. وساتنَّعم بعد قليل بشراب الدارسين الساخن (القرفة)، والجلوس في بهو الحَمَّام، للضحك مسترخياً علي أختي الصغيرتين !! وانا أرى أختي الكبيرة تحملهن إلى الحَمَّام، فحَمَّامهُنّ جَمَاعيَّةً، وليس مثلنا نحن الأولاد، الذين نعتبر عند والدتي ” شياطين مردة” لا يمكن السيطرة عليهم إنْ اجتمعوا معاً.
وما أن تتفرغ الوالدة لي، وأكون وقتها قد استرجعت بعض الأنفاس، حتى يبدأ العذاب الأخير، إدخال رأسي، الذي هو أكبر من فتحة البلوز الصوفي بعشر مرات، وإدخال ذراعي الرطبتين في فتحتي البلوز. وبعدها تأتي أختي الكبيرة لي بكأس القرفة، فأجلس جلسة المتنَّعمين حامداً الله تعالى على فضله، وأشكره أنْ عتقني من العذاب العظيم على يدي الوالدة الكريمة ..
رحم الله أمي، كانت سيدة عظيمة.علمتنا بحَمَّامها الأسبوعيّ، أفضل ما علمنا معلمنا يرحمه الله تعالى، أنَّ جَهَنَّمَ ليست في الآخرة فقط، إنَّها معنا أيضاً على الأرض وكذلك الجَنَّة.
روائي وصحافي عراقي مقيم بالمغرب