طعمة البسام :
في القراءة والجاحظ والفالج وعبد الباسط وكلكامش :
يرى القصصي والحكواتي الارجنتيني الاعمى – البصير بورخيس العظيم الجنة كما لو انها مكتبة عظيمة .. وللمصري عباس محمود العقاد مكتبة هائلة في بيته رغم انه لم يكمل دراسته الابتدائية ويقال ان فتاة زارت يوما العقاد في بيته فاغمي عليها لانها لم ترَ من قبل هذا الكم الهائل من الكتب وقد سُئل العقاد يوما : لماذا تقرأ ؟؟ فرد قائلا انه لم يعش الا حياة واحدة … ويقصد ان حياة واحدة لا تكفي الاستشكاف هذا العالم الغريب … فقراءة الكتب تضيف لك تجارب وطريقة اخرى للغور في خبايا الحياة والعالم والكون ….
واول شيء انزل في القران هي كلمة ” اقرأ ” بل وان كتاب الله العظيم سمي القران اشتقاقا من كلمة القراءة … وان العلم ياتي بالقراءة والقلم فان الله علم الانسان بالقلم .. علمه ما لم يعلم … عموما نحن امة لا تقرأ ويقال ان وزير الدفاع الاسرائيلي في حرب عام 1967 موشي دايان كان يقول انه لن يخاف من العرب ما داموا لا يقرأون … الامم الاخرى تقرأ وبنهم كما نأكل نحن بنهم … واكثر الناس عندنا فقرا هم مؤلفو الكتب فتجارتهم بائرة فلا احد يشتريها …. وتقول الابحاث انه في العراق مثلا فان اكثر صحيفة يومية طباعة لا تتجاوز الخمسة الاف نسخه يوميا ترتجع منها نحو الفي نسخه … وهذا يعني ان ثلاثة الاف نسخه مقرؤة فقط … وفي ابحاث الصحافة والاعلام فان النسخه الواحدة يقرئها نحو عشرة اشخاص كحد اعلى … وهذا يعني ان ثلاثين الف عراقي يقرأون الصحف يوميا من ستة وثلاثين مليون … !! ثلاثين الف من ستة وثلاثين مليون … كم نسبتهم ؟؟؟؟؟
في اليابان صحيفة اسمها ” اساهي ” تطبع في اليوم الواحد ( 12) مليون نسخه وعدد سكان اليابان نحو مئة وعشرين مليون واذا طبقنا قانون العشرة في نسخة واحدة فان جميع الشعب الياباني يقرأون الصحيفة… يعني نسبة القراء في اليابان 100% … ونحن نسمي اليابان بالكوكب … ولكنني فوجئت يوما حين زار رئيس الوزراء العراقي طوكيو واجتمع برئيس وزراءهم بقول الاخير ان العراق كوكبا ايضا ولم افهم ماذا كان يقصد المسؤول الياباني في وصفه الغامض هذا بان العراق كوكبا !!!!!!!
وعودة الى موضوع القراءة فان الروائي الايطالي البرتو مورافيا قال انه كان يقرأ كتابا كل يوم طوال اكثر من عشرين سنة …فاصبح عقله مكتبة متنقلة … وفي الكتب تكمن روح الزمن الخالد … خلاصة الافكار والتجارب والرؤى … الكتب تقارع الزمن والموت والفناء خلود الانسان تكمن في بطن الكتب … وللكتب امهات ……والمتنبي لخص الموضوع كعادته في التلخيص وقال: وخير جليس في الزمان كتاب .
هل تقتل الكتب اصحابها ؟؟؟
اصيب الموسوعي البصري العظيم ابو عمرو الجاحظ بعد عمر طويل امضاه في البحث والتنقيب والتاليف اصيب بمرض ” الفالج ” وهو مرض اشبه بالشلل والجاحظ الذي سخر من نفسه يوما حين روى ان امرأة رأته في السوق فامسكت بتلابيبه واخذته الى صائغ الذهب ثم قالت للصائغ : اريده مثل هذا .. ثم ذهبت الى حال سبيلها وظل الجاحظ واقفا امام محل الصائغ مندهشا من تصرف المرأة فقال له الصائغ : ان هذه المرأة ارادت ان ارسم وجه الشيطان على خاتم لها فقلت لها لا اعرف وجه الشيطان فاتت بك اليّ ، الجاحظ هذا لم يتزوج حاله حال العقاد …واصيب في اخريات عمره بهذا المرض فلا يستطيع حراكا ويقال ان كتبه سقطت عليه وهو على تلك الحال فلم يستطع تخليص نفسه فمات تحت كتبه …. كان امرا عجبا … عاش اولئك الناس قبل الف سنة … لم تكن هناك اقلام ولا اوراق كافية ولا كهرباء ولا طباعة ولا كيبورد ومع ذلك تركوا لنا ارثا عظيما من المعارف والعلوم … للجاحظ نحو خمسة عشر كتابا ولو كنت قرأت بيانه وتبيينه لدهشت منه لسعة علومه والتفاتاته الذكية … ولو قرأت كتابه ” الحيوان ” لتساءلت ماذا كان الرجل يتابع قناة ( جيوفرافك ) ليترك لنا ذلك السفر من حياة الحيوانات وطباعها .
لم يكن موضوعنا هنا الجاحظ ولكنها القراءة والمطالعة فالفيلسوف البريطاني بيكون يقول ان القراءة تصنع الانسان الكامل… هي تمنحك حيوات اخرى وتجارب ثرة تمنحك الغنى والثراء الروحي .. الكتاب صديق عجيب .. صامت ناطق .. ترجمان لعقول اخرى يعطيك … ما عنده واعظم الكتب اطلاقا هو القران الكريم … كتاب لا تنتهي عجائبه كما يصفه الامام العظيم علي … واذا اردت ان يكلمك الله ويتحدث اليك فأقرأ القران او استمع له … الا تحب ان يتحدث معك واليك ؟؟؟ الا تحب ان تسمع الله وهو يخاطبك ويحادثك ويتكلم معك ؟؟ استمع الى عبد الباسط او صديق المنشاوي … يوصف صوت المنشاوي بانه عبارة عن شلال من ماء الورد … رذاذ الهي … اما عبد الباسط فهو صوت سماوي ينحدر اليك من السماوات العلى فيفيض عطرا .. بالمناسبة عبد الباسط عبد الصمد رجل عراقي ؟؟؟ اجداده من اكراد العراق هاجروا الى مصر في القرن التاسع عشر وسكنوا هناك وولد عبد الباسط ه في الصعيد ونشأ وترعرع وتعلم فاضحى مصريا …. ونريد ان نزيد في القول ونقول ان احمد عرابي القائد المصري المعروف وقائد الثورة ضد الانكليز هو الاخر عراقي … ومن اهل القرنة بالذات … نعم من قرنة البصرة !!!!!!!
وعودة الى القراءة والكتابة موضوع هذا الفصل …. اذ يقول المؤرخون ان الكتابة والقراءة بدأت في مدينة الوركاء التي تقع على بعد خمسة عشر كيلو متر من مدينة الخضر في محافظة المثنى … تخيل … تخيل اخي الكريم … ان اهالي الوركاء في ريف السماوة التي تعد الان اكثر المدن في العراق فقرا وامية هم من اخترع القراءة والكتابة … كان عندهم رجل همام اسمه كلكامش رجل حكيم … عبر البحار والصحاري والوهاد في رحلة شاقة بحثا عن شجرة الخلود … ووجدها الرجل … لم ياكل منها شيئا … كان همه ان يعود بها الى اورك لياكل منها شعبه ويضمنون الخلود الابدي فلا يموتون… غير ان الافعى الخبيثة قد سرقتها منه اثناء نومه … اقرأوا الملحمة العظيمة … ملحمة
كلكامش كتبها اهالي الوركاء ليخلدوها … ليخلدوا ملكهم العظيم الناكر لذاته من اجل شعبه ..
حين تزور اوروك المدينة السومرية العتيده والوحيدة التي ذكر اسمها في العهد القديم الان فانك لن تشاهد شيئا سوى اطلال حفرها الاثاريون الانكليز والالمان .. اطلال تصفر فيها الريح وكنوز لم يعثر عليها احد …. تلك الاطلالة ربما كانت حانه … حانت السيدة سيدوري … كان اهل الوركاء ” المثقفين ” مكتشفي القراءة والكتابة على الطين يشربون الجعة والخمر … اهل الوركاء كانوا يسكرون ويشربون العرق !!!!!! وفي حانة اسمها حانة السيدة سيدوري …. تصوروا كانت امرأة من اهالي الوركاء تبيع الخمر قبل خمسة الاف سنة …. وكلما زرت السماوة ومررت بمراب النواحي والاقضية كنت اسمع سواق السيارات وهم ينادون : نفرين وركا…. بدون الهمزة .. فاتخيل نفسي ذاهب الى تلك المدينة السومرية لالتقي بجدنا العظيم صاحب الملحمة ونجلس في طرف حانة جدتنا سيدوري واتناول معه كاسا من البيرة المثلجة ونتحدث عن تلك الغفوة القصيرة الملعونه حين سرقت الحية نبتة الخلود ..والندامة التي حلت في قلبه وقلوب شعبه وقلوب الاف الاجيال من احفاده … اذ خذلته المقادير والحية اللعينة … وظل الموت يلتهم البشر الى ما لانهاية ….اهالي الوركاء الان نصفهم او اكثر لا يجيدون القراءة … اناس فقراء معوزين شبه حفاة … ويقولون لو ظالين على كلكامش جان احسن واحسن فقد دخلنا على عصر النت والفيس ونحن لا نقرا ولا نكتب ؟؟؟ يا لها من مفارقة .