وطن برس أونلاين

جريدة عربية مستقلة

ادب وتراث

وعي النهضة عند سلامة موسى

عبدالله خليفة:كاتب وروائي من البحرين
يعتبر سلامة موسى الكاتب العربي، أحد القلائل الذين أثاروا الجدل الفكري على مدى القرن العشرين، بسبب جرأة أفكاره وثباته الفكري الطويل لغرس قيم الوعي بالنهضة، عبر الكتابة والدعوة المستمرة لعدة عقود.
كان أبوه من الموظفين الكبار في الإدارة، فحصل على فرص كبيرة للقراءة والدراسة والسفر والتفرغ للفكر والإطلاع، ولكنه لم يفلح في الدراسة المنظمة سواء على مستوى الدراسة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية، وهو يقول: إن ذلك كان بسبب محدودية المناهج ورغبته في الخروج من قيودها، ولكن من الواضح أيضاً انه لم يكن ذا قدرة على التركيز الدراسي والبحثي العميق، فاتسمت كتاباته بالسهولة الشديدة والتنوع والتضارب في الأفكار والرؤى، رغم أنها كانت تدعو للنهوض بشكل عام.
وقد سافر إلى باريس، بشكل مغاير لسفر الطهطاوي، حيث كانت السرعة في السفر والتوجه إلى اليسار الأوروبي تحديداً، وخاصة الاشتراكيين والتطوريين، والصداقة مع أعلام الفكر الغربي كـ برنارد شو. وقد ذهل من دفاع اليسار الأوروبي عن قضية الشعب المصري، ودور برنارد شو خاصة في فضح محاكمة دنشواي الشهيرة التي قتلت مجموعة من الفلاحين غير المذنبين.
فوجئ في الغرب بكثافة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، وغيابها شبه الكلي عن الثقافة المصرية المعاصرة وقتذاك، فكرس جزءاً كبيراً من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على الحضارة القديمة.
كذلك سافر ودرس في لندن الحقوق من أجل جلب شهادة، ولكنه كعادته لم يستمر في ذلك؛ وساح في الثقافة والأدب والعلوم، وحين عاد ركز على النشر، وكان أول كتاب له هو (مقدمة السوبرمان) سنة 1912، ثم أصدر سلسلة من الكتب، ورأس تحرير مجلته الخاصة، التي كرسها لنشر فكر الحداثة كما يراه.
يعبر كتيبه هذا، أي مقدمة السوبرمان، عن هذه العملية الفكرية التي بتضافر فيها العمق والسذاجة، وتتحد النوايا الطيبة بغياب الدرس العميق، ففكرة السوبرمان هي فكرة نيتشويه، دعا إليها مفكر الفاشية الألمانية: نيتشه، لخلق عرق متميز، يغدو بمثابة الإنسان الأعلى. الذي يتخلص من الإنسان الضعيف، وكانت هذه الفكرة تفتح فيما بعد الباب لعمليات التطهير والمذابح في العروق (الخسيسة) عند النازيين.
وبطبيعة الحال فإن سلامة موسى أخذ الفكرة بحسن نية، دامجاً إياها في فكرة علمية أخرى، هي نظرية التطور لـ دارون. فهذه الفكرة الكبرى في القرن التاسع عشر والتي فجرها العالم البريطاني دارون بكتابه (أصل الانواع)، كشفت لأول مرة ان العالم الحيواني خضع لتطور كبير، بدأ من ظهوره في الحياة البحرية ثم ارتقائه سلم التطور حتى ظهور أنواع الثدييات التي منها الإنسان.
وقد دمج سلامة موسى هاتين الفكرتين، ولكن عبر تطبيقهما على المستقبل، حيث سيظهر في اعتقاده إنسان متطور يختلف عن الجنس السائد حالياً. وهذه الفكرة هي التي عزفت عليها النازية. المتنامية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى, وهي التي دمجت أيضاً بين الارتقاء المزعوم بالإنسان الحيوان وبين الاشتراكية.
هذه الفكرة التي بدأ سلامة موسى حياته الفكرية بها، تعبر عن ذلك المزيج الفكري المضطرب، فقد مزج بين فكرة علمية هي نظرية التطور التي قدم حولها كذلك سلسلة من الاستعراضات الشائقة، وبين فكرة ايديولوجية خطرة ليست سوى واجهة للعنصرية، وهكذا فإن سلامة جمع بين فكرين متناقضين، الأول هو فكر التطور الموضوعي للأجناس وللمجتمعات، والفكر الآخر هو فكر الفاشية البيولوجية، لكنه لم ير الدلالات المتوارية وراءها. ولديه هنا ذلك الخلط الذي استمر طويلاً بين البيولوجيا والاجتماع، بين التطور العضوي ذي القوانين الخاصة، والتطور الاجتماعي، مما يعبر هنا عن داروينية اجتماعية.
في رؤيته للنهضة وكيفية تحقيقها فإن سلامة موسى يواصل موقفه المبسط لها، فهو ببساطة يدعو للالتحاق بالنهضة الأوروبية، وترك العروبة والإسلام والماضي، وركوب القطار المتوجه إلى الحداثة.
يقول في أحد كتبه من سنوات أواخر العشرينيات من القرن الماضي وهو (اليوم وغداً).
«فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا، لأننا في حاجة إلى أن نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهي لن تزيد من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب. اننا اذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدباً راقيًا ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر»، ومن عناوين هذا الكتاب:
لسنا شرقيين، الدم الشرقي فينا جلبه علينا العرب، الجامعة المصرية هي أداة للثقافة الحديثة، الأزهر هو أداة الثقافة «المظلمة»، ليس علينا للعرب أي ولاء، لغة المتنبي ليست لغتنا، الرابطة الشرقية سخافة، الرابطة الحقيقة هي رابطة الثقافة وهي رابطتنا بأوروبا.
يعبر هذا الوعي عند سلامة موسى عن لغة التبسيط في تشكيل النهضة، فالنهضة هي استيراد كاستيراد البضائع، فهي علاقة كمية فتعبيره «أن نزيد» يعبر عن هذه الفكرة، فما علينا لكي نلتحق بأوروبا سوى أن نكثر من استيراد كافة الأشياء النهضوية كالاختراعات، وإذا كانت هذه الأشياء من الممكن استيرادها فعلاً وهي مفيدة جداً، فإن ذلك لا ينطبق على المؤسسات الفكرية، والعلاقات الاجتماعية التاريخية، فكيف يمكن أن ننقل عمليات التحول التي جرت أوروبياً في عدة قرون؟ هل نشحنها أم نقلدها؟
إن الوعي الاستيرادي لتجار الجملة واضح هنا، ويتوجه سلامة موسى إلى الدعوة لنقل تلك المنتجات الغربية، ولهذا لا بد من الانفصال عن الرابطة العربية والإسلامية، وعن العلاقة مع الأمم الشرقية المتخلفة، بل عن التاريخ العربي والدم العربي، وهذا ما يمكن أن يحدث قطيعة مع التراث ومع الثقافة المتخلفة، وبالتالي تتحقق النهضة.
هذه التبسيطية تتحقق في الواقع عبر انسلاخ مجموعات من الفئات الوسطى عن البنية الاجتماعية الإقطاعية، وهذا الانسلاخ لا يحدث الا عبر جلب مظاهر حضارية غربية مستوردة، لا يحدث لها أي جذر في تلك البنية، لأنها تتشكل كقشور ملونة فوقها.
إن ارتباط مصر بالعرب أو بالشرق ليس ارتباطاً لغوياً أو ثقافياً، بل هو ارتباط منظومة اجتماعية متماثلة، متعددة مستويات التطور، هي المنظومة الإقطاعية – المذهبية العربية في طور أزمة العلاقة مع التطور الرأسمالي الحديث.
وما يقوله سلامة موسى عن الانسلاخ من منظومة والالتحاق بأخرى، هو وهم طبقي، أي أنها أفكار وممارسات تتحقق عند مجموعات في الشرق تتوهم انها تتحضر عبر استيراد النهضة وليس إنتاجها، وهي هذه الفئات المستوردة للبضائع الغربية والافكار الغربية.
هكذا يكّون سلامة موسى الأفكار النهضوية لشريحة من الفئات الوسطى الحديثة، ذات المستوى المعيشي الجيد، والتي لا تدخل في علاقة صراع عميقة وواسعة مع الغرب الإمبريالي، مثلما لا تدخل في عملية صراع مماثلة مع الشرق الاقطاعي، ولكنها في الوقت الذي تريد فيه المماثلة والذوبان في الغرب، فإنها تريد الانسلاخ من الشرق.
إن هذه الطريقة الاستهلاكية والاستيرادية للمنتجات الفكرية والسلعية الغربية، لا تترافق مع عمليات إنتاج فكرية وسلعية وطنية، ولهذا فإن سلامة موسى لا يقيم مصنعاً لإنتاج الوعي الوطني، بقدر ما يفتتح دكاناً لجلب البضائع من المركز، وبطبيعة الحال فإنه يريد تطوير وتقدم البلد عبر ذلك، ولهذا يحرص على جلب أفكار النهضة والتطور وحرية المرأة والعلمانية وأهمية العلوم ونشر الأدب الشعبي والتخلي عن أدب الأبراج العاجية وضرورة تعلم الرقص الرفيع . . الخ.
وكل هذه تقدم أحياناً كمقالات مطولة وقصيرة في أغلب الاحيان، وتتجه إلى عرض الفكرة والترويج لها، بدون تحليلات معمقة. وكثيراً ما تقوده هذه الافكار الشعارية إلى الاصطدام مع القوة الاجتماعية المهيمنة، أي الاقطاع بنوعيه السياسي والمذهبي.
وإضافة إلى الطابع الاستفزازي فإن غياب التحليل العميق للشعار المراد جلبه ونشره في الشرق يؤدي إلى نتائج عكسية.
لكن علينا أن نعتبر فكرته بضرورة تغييب الرابطة العربية والإسلامية من تطور مصر الحضاري المنتظر، هو خطأ فكري مزدوج، فهو خطأ في قراءة سيرورة مصر، المتكونة بشكل عربي وإسلامي في العصر الوسيط، حيث حدثت نهضة كبيرة بفضل هذه المرحلة، ولكن النظام الذي هيمن غيب تلك الإنجازات، فيبدو التطور العربي الإسلامي عند سلامة موسى كفعل سلبي فحسب، فهو يغفل العناصر الديمقراطية والنهضوية في هذا السياق، مركزاً على الأشكال التي سيطر بها الاقطاع المذهبي على المسلمين، معتبراً هذه الأشكال هي كل ما أنتجه العرب والمسلمون.
ولا شك أن فرز هذه العناصر المتضادة يحتاج إلى دراسات معمقة، وتحليلات في البنية الاجتماعية ومستوياتها، وهي أمور لم يقم بها سلامة موسى، فيجد أمامه الثقافة العربية الإسلامية كثقافة تقليدية يجب الإطاحة بها، وحتى هذه الإطاحة تبقى غير مبلورة، بل هي شعارات موجهة ضد لغة عربية متكلسة، وهو أمر صحيح، وقد ساهم هو في زحزحة هذه اللغة المقعرة الجامدة، بلغته الرشيقة السهلة الواضحة. ولكن مسائل إزاحة الجمود والتخلف في ثقافة هي غير إلغائها، ويبقى وعي سلامة موسى غير قادر على كشف هذه اللوحة المعقدة والمركبة للثقافة العربية والإسلامية.
ليس لأنه يأتي إليهما من الخارج، بل لأنه لم يدرسهما بشكل عميق، وأغلب قراءاته هي للنتاج الغربي عموماً، وهو يريد إدخال شعارات هذا الغربي المتطور إلى عالم يرفضه ويريده ان يتغير.
إن رغبته فى تشكيل مصر بالصورة التي يريدها، حيث لم يقم بالكتابة عن اي بلد عربي آخر، ودوره في هذه الكتابة الطويلة وخلق القراء، لا تؤدي إلى نتائج كبيرة في الواقع والمناخ الثقافي الفكري، وعلى العكس فإن المناخ يتجه إلى نقيض افكاره، وجهده في خلق تنوير يُستبدل برواج الاتجاهات السلبية والمحافظة.
وهذا المصير الفكري والاجتماعي هو غير مسئول عنه، ولكن هذا المصير يحدد كيف تضيع سنوات من العمل الفكري وتتدمر بذور التنويريين، من دون أن يروا آفاق عملهم.
كان التطور الاجتماعي والفكري في مصر يتجه بخلاف آراء سلامة موسى بضرورة اعتماد التدرج الاشتراكي في عمليات الإصلاح، فالمدينة الاقطاعية التي أسستها السلالة الملكية كانت تتجه إلى الانفجار، والتحولات الرأسمالية على مدى قرن كامل، لم تستطع تشكيل تحول رأسمالي جذري، على صعيد تشكيل سلطة ديمقراطية أو على أساس نمو تحديثي في كافة مستويات البنية، فبدأت المدن تتضخم سكانياً من جراء تطورات رأسمالية متضادة، وبدأ الريف يضغط، ونستطيع أن نعتير سيطرة الضباط الأحرار هو انتصار للفلاحين المتوسطين بثقافتهم الدينية والحديثة المتداخلة، بحيث حافظوا على التعايش بين النظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي، وعبر سيطرتهم على رأسمالية الدولة، انتقلوا الى صفوف الأغنياء، وأدى هذا التطور العسكري، إلى استنفار القوى المحافظة وعودتها بعدئذ إلى الهيمنة بشكل أقوى من السابق.
موسى ناضل من أجل نمو التحديث والليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يسميها الاشتراكية، ولكن ما حدث هو نمو الاتجاهات الشمولية، ولم يسهم في رصد هذا الصعود بسبب أدوات تحليله المبسطة، أي عدم قراءة البنية الاجتماعية وبالتالي لم يشكل تياراً يقاوم هذا الاكتساح المستقبلي، رغم اهتمامه الشديد بالمستقبل، وذلك عبر عدم جمعه بين العروبة والإسلام والتحديث، بين العلمانية وتحليل الجذور التاريخية للأمة، بين الانتماء للشرق والانفتاح على ثمار الأمم النهضوية، بين الدفاع عن الديمقراطية وتقدم الأغلبية. . الخ.
هذه التركيبة الجدلية كانت تستدعي دراسات على مستويات الماضي والحاضر، الشرق والغرب، وهذه الإمكانية التوليفية لم تكن ممكنة لجيل كامل من النهضويين، تقاطع وعيهم بين قطبين، قطب الشرق والتراث، وقطب الغرب والمعاصرة، وهو أمر يعكس هيمنة الفئات الوسطى غير الصناعية، والمستوردة، التي تستورد الموديلات الجاهزة من الماضي أو من الحاضر الغربي، وليست قادرة على التصنيع وإعادة تشكيل الواقع، وهو أمر يتطلب تغيير المواد الخام التراثية والراهنة، تبعاً لتطور مصالح الأغلبية من الشعب والأمة.
إن الشعارات السهلة والتنويرية لا تقود إلى محصول كبير، فمن السهل المطالبة بزوال الأزهر كمؤسسة دينية ولكن من الصعب دراسة هذه المؤسسة وتيارات الوعي فيها، وطرح اجتهادات في الخطاب الديني نفسه، وهذا ما أخذت التيارات النهضوية العربية الجديدة تعيد النظر فيه، وبدأت دراسات علمية فى هذه الجوانب.
والدراسة العميقة تودي إلى غياب الشعارية والتسييس الُمبسّط والخطر وتقترب من رصد الحالة الموضوعية للتطور، واحتمالاتها المختلفة، وبالتالي تغدو أكثر تبصراً على صعيد التأثير اليومي.
بطبيعة الحال أسهم سلامة موسى في نشعر ثقافة تنويرية ونهضوية في حدود معينة، وهناك أجيال من الشباب تدين له بالفضل بسبب دعواته للعلم والثقافة والتمدن، وقد شرح العديد من النظريات ببساطة، ولكن يبقى أن يؤخذ تراثه بقراءة جديدة وبحذر علمي.
وهناك دراسات كبيرة كتبت عنه، ولكنها إما أن تمدحه بإفراط أو ترفضه بتعصب شديد، ولهذا فإن دراسة موضوعية عنه، وتجميع كتبه في طبعات جديدة كاملة، هي أمور ضرورية لاكتشاف وعينا العربي المعاصر بشتى جوانبه.
لقد كتب عنه الباحث المغربي عبدالله العروي في تقويم أقرب إلى الدقة حين وصفه بانه نموذج لـ سبنسر، وهو المؤلف البريطاني الذي مزج بين الداروينية البيولوجية والحياة الاجتماعية.
وليس صحيحاً ما قاله المفكر محمود أمين العالم عن سلامة موسى ورفضاً لرؤية العروي: إن سلامة موسى له جذور بابن خلدون وغيره من المؤرخين والباحثين العرب.
عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة عند سلامة موسى

اترك ردا

Developed and designed by Websites Builder Ph:0449 146 961