من طريف ذكرياتي في حياتي العسكرية، حيث كنت في البصرة، او على تخومها الشرقية، انه نودي في احد الايام على الحضائر بان ترسل كل واحدة جنديا الى مقر الوحدة، لأمر ما. ذهبنا وكنا ستة جنود، ووجدنا ضابطا هناك، كان عليه ان يوزعنا وفقا لاجتهاده بين المهام التي نودي علينا لاجلها، والتي لا نعرف طبيعتها. وقف الضابط قبالتنا واشار الى ثلاثة منا وقال انتم تذهبون الى مقر الفرقة، وقال لثلاثة اخرين انتم تذهبون الى مكان اخر لا اتذكره. وحتى بعد توزيعنا لم نعرف طبيعة المهام التي ستوكل الينا، لكنا حين عدنا عرفنا ان الحياة مصادفات وحظوظ حتى في المسائل التفصيلية الصغيرة. لقد كانت هناك حفلة غنائية اقيمت في المقرات الخلفية، وطلب من كل وحدة ارسال ثلاثة جنود لحضورها، وكان هناك ايضا بناء مقر كبير لاحدى القيادات، وكان على كل وحدة ارسال ثلاثة جنود ايضا. اما ما كان على الضابط، فهو ارسال ثلاثة لكلا المهمتين لينفذ الامر!
تذكرت تلك الواقعة التي حصلت قبل اكثر من ثلاثين عاما، وانا اتجول في البصرة، اثناء حضوري فعاليات مهرجان المربد الاخير، لان المدينة التي لم ازرها منذ اكثر من سنتين، تغيرت فيها امور كثيرة نحو الافضل، مثلما بقيت امور اخرى على حالها، فيما تراجعت اخرى نحو الاسوأ، وبشكل يصعب السكوت عليه، لان امكانية جعل هذا السيء جيدا ليست بالصعبة ابدا، وانما تحتاج الى همة المسؤولين وعقل مدني يخرج البصرة من مأزقها المتمثل بانعدام النظافة بشكل مثير للفزع، ورفع الانقاض المنتشرة في ساحاتها، وزرع المناطق الجرداء المتربة التي تتوزع احيائها وشوارعها التي بدا اكثرها خاليا من البهجة وتسيطر عليه كآبة لا تليق بمدينة عرفت بحبها للحياة والاحتفاء بالفنون والثقافة.
الذي يذهب الى البصرة اليوم، ستصدمه المتناقضات التي تعج بها، اذ ان حركة العمران واللمسات الحضارية الجميلة حاضرة وتتصاعد في اكثر من مكان، وابرز ادلتها الاسواق الحديثة (المولات) واشهرها مول البصرة الذي اقيم بطريقة الاستثمار على انقاض بناية بهو الادارة المحلية السابق، وقد كان باذخا وفارها يسرّ الناظرين ويملأ النفوس بالبهجة، لكن الشوارع التي تحيطه متربة وتنعدم فيها النظافة المطلوبة، الاّ ان هذه لا تقاس بمأساة العشار التي هي مأساة مرعبة حقا، فنهره العتيد الذي كان في يوم ما معلما سياحيا وجماليا يخترق البصرة بمائه العذب وحضرته، بات اليوم ممتلأ بمياه المجاري التي تبعث روائح كريهة تزكم الانوف وتثير القرف، فضلا على النفايات المختلفة التي تغطي مياهه التي تحولت الى اللون الوردي، فيما ضفافه متآكلة ومهملة بشكل لا يمكن تخيله، ناهيك عن فوضى البسطات التي ضيّقت المكان وشوهته، وان المرور من تلك المنطقة التي هي قلب البصرة القديمة، تتطلب من المرء ان يسد انفه تفاديا تلك الروائح، وقد كتبنا عن هذا النهر العجيب اكثر من مرة، لكننا نراه على حاله واسوأ مما سبق.
لكن البصرة لها وجه اخر، يختلف تماما عن هذا، وجه اسهمت في صنعه الاستثمارات التي لاغنى عنها للنهوض بهذه المدينة العظيمة، فالفنادق الكبيرة والفارهة التي اكتملت والاخرى التي في طريقها للاكتمال، وبعض الساحات الجميلة المفروشة بالخضرة، وهذه تبلغ ذروتها في الطريق المؤدية الى المدينة الرياضية، هذا المعلم الحضاري الكبير، الذي تكتظ جانبي الشارع الموصل اليه، بمشاريع اخرى، عمرانية وخدمية، تزرع الامل ببصرة جديدة واعدة تتجه الى المستقبل بعدة متكاملة لو توفر العقل المدني الذي مازال ينقص ادارتها بشكل عام. فالمدينة الرياضية صرح جميل لم يكتب له الاكتمال لاسباب يقال انها تتعلق بالفساد الاداري الذي قتل حلم العراقيين وحوله الى كابوس مستمر في البصرة وغيرها من مدن العراق للاسف. اذ عندما زرنا المدينة الرياضية وجدنا عجلة العمل متوقفة في فنادقها ومرافقها الاخرى التي كان يجب ان تكتمل قبل اكثر من ثلاث سنوات لاستضافة بطولة الخليج، لكنها مازالت تراوح مكانها، وهناك شك باكتمال المنشآت الاخرى فيها، ما يعني ان هذا الصرح سيبقى اعرجا لامد غير معلوم.
الامر لا يختلف كثيرا مع منطقة ابو الخصيب القضاء الجميل الذي تغيرت الكثير من ملامحه، بسبب كثرة البناء العشوائي، لاسيما على الطريق المؤدية الى مركزه من جهة شارع البصرة الفاو، الذي يشهد حركة عمرانية واسعة ينقصها التنظيم والنظافة التي تبقى دائما غائبة في البصرة، التي كانت تسمى ثغر العراق الباسم! ما يبدد الفرحة بهذا العمران المتواصل، وخصوصا المجمعات السكنية التي تبشر ببصرة اخرى حديثة، بالرغم من ان هذه المشاريع الضرورية متوقف العمل في بعضها كما لاحظنا ونامل ان يكون توقفها مؤقتا.
اما ما يخص مهرجان المربد، فقد كان هذا العام اكثر حيوية من الاعوام السابقة، لكنه اشتكى ضعفا في التنظيم، بالرغم من كرم الضيافة التي حظي بها الضيوف، وان الذي خلصنا اليه، هو ضرورة ان يكون الاتحاد العام للادباء والكتاب/المركز العام هو الذي يجب ان يشرف على المهرجان بالتعاون مع اتحاد ادباء البصرة، وليس العكس، ويجب ان تكون وزارة الثقافة جادة في دعم المركز، لاخراج هذه الفعالية الثقافية بافضل صورها، سواء على مستوى الادارة او الدعوات والامور الاخرى التي كانت محور انتقادات عدد من الادباء، وان كانت دوافع بعضهم ذاتية تجانب الموضوعية ولا تقصد التقويم بالضرورة!
في عودة الى بداية هذه السطور وحكاية الجنود، نقول، ان البصرة واناسها، توزعوا بين استثمارات اخذتهم الى عالم جديد مفعم بالامل، وبين ادارة رسمية ترافقها صراعات سياسية مستمرة، ترسلهم كل يوم الى عناء لا يعرفون متى ينتهون منه.