د. طه جزاع *
قد يتوهم بعض من سمع كلام سفير جمهورية كوريا الجنوبية في العراق كيم هيونغ ميونغ،ان الرجل ومن باب المجاملات السياسية التقليدية،قال في لقاء عمل رسمي (ان العراقيين قادرون أن يجعلوا من بلدهم جنة عدن مرة اخرى) من دون ان يدرك هذا البعض انه كان يعني ما يقوله،وانه لا بد قد اطلع وقرأ جيدا عن تاريخ هذه الارض التي جاء سفيرا اليها،وأدرك ما أدركه منذ قرن من الزمان العالم والمهندس المعماري البريطاني السير وليم ويلكوكس من ان البقعة الواقعة قرب خليج البصرة جنوبي الناصرية بجوار مدينة أريدو القديمة والتي هي عبارة عن مجموعة من الأهوار،كانت مركزا لجنة عدن السومرية،أما بقعة الشلالات الواقعة بين هيت وعنة،فهي جنة عدن عند الأكاديين،وكان ويلكوكس وصل العراق من مصر العام 1908 بعد ان انتدبته الحكومة العثمانية مع عدد من المهندسين لإعادة بناء سدة الهندية التي أنهارت في العام 1903 ما هدد بتعريض مدينتي الحلة والديوانية الى الجفاف،وكلفته ايضا بإعداد دراسة حول طرق الاستغلال الامثل لمياه نهري دجلة والفرات،فكانت له جولات وصولات علمية على ضفاف هذين النهرين،استنتج منها نظريته التي تقول ان جنة عدن الميثولوجية،لم تكن إلا في العراق.
ولا شك ان السيد ميونغ يعتقد ان 30 شركة كورية عاملة في العراق،مع حجم ميزان تجاري يبلغ 12 مليار دولار بين البلدين،قادرة ان تسهم مساهمة حقيقية،في جعل هذا البلد جنة عدن (مرة اخرى) بعد ما شهده من دمار وتخريب وكوارث وحروب أتت على الحرث والنسل،وبعد أن زاد على خرابها خرابا،أحفاد السومريين والأكاديين،بالنهب والسلب والفساد،وقلبوا عاليها سافلها،فضيعوا جنتهم الدنيوية،وباتوا(بقايا) شعب من (التائهين)الذين تلفظهم جنات الأرض وخرائبها،جزاء ما صنعت أياديهم،فشهر بهم المشهرون،وشمت بهم الشامتون،ولعنهم اللاعنون،الذين يشتمون الشعب ويهزأون به صراحة وعلنا،وعلى موائده سرا يثردون ويهرسون وينهشون ويسرطون ويبلعون،ولا يقنعون ولا يشبعون!
ان النوايا الحسنة،مثل نية السفير الكوري الطيب،لا تكفي للوصول بالعراق الى جنة عدن مرة اخرى،ولن تنقذه حتى من النار،وان مئات الشركات وآلاف المهندسين والعمال،ومليارات المليارات من الدولارات،لا تنفع شيئا مع تفشي الفساد المالي والوظيفي،وتدهور الأمن،وانفلات المجتمع،وغياب سلطة القانون،والتناحر السياسي،والتخندق العرقي والطائفي والمناطقي والعشائري،وقلة الاحترام بين الشعب ومسؤوليه،وعجز الأجهزة الحكومية عن حفظ حياة مواطنيها وأمنهم وسلامتهم وأموالهم وأعراضهم،والاستهتار بحياة الناس اليومية،والتضييق على أرزاقهم وحرياتهم وحركتهم بقرارات وقوانين وإجراءات تعسفية قراقوشية،فذلك من شأنه ان يحيل حياة هذا الشعب الصابر المكلوم الى جحيم،ولن يوصله يوما الى عتبة من عتبات جنة عدن الدنيوية،ولا الى ظل من ظلالها وقطوفها الدانية!
طريق العودة الى جنة عدن – سعادة السفير كيم هيونغ ميونغ- غير معبد بالشوارع الفارهة،والعمارات السكنية الفاخرة،والفنادق الباذخة،والجسور والأنفاق،والمتنزهات والحدائق،انه طريق لا يسلكه إلا المؤمنون بقدسية حياة الانسان وكرامته وحريته،المتمسكون بوطنهم الواحد القوي المستقل الذي كان يسمى يوما ما،جنة عدن،مع ان هذه الجنة لم تكن أكثر من مدن صغيرة وقرى بدائية،على ضفاف نهر!
* كاتب وصحفي من العراق